“ليبانون ديبايت”- روني ألفا
ثلاثةُ أسابيع جديدة من الحَجر في بيوتنا. قليلاً من الفودكا من صُنعٍ محلّي لتجنّبِ البقاء على قيد الوعي. دفعةٌ جديدةٌ من أفلام نتفلكس ستساعدنا على قتلِ الوقت أو تساعدُ الوقتَ على قتلِنا. ساعتان أو ثلاث على التواصلِ الإجتماعي. العبارةُ الأكثرُ شيوعاً على فايسبوك هذه الأيام باتت تتلخصُ في كلمتين: تَعازينا الحارَّة. أصابعُنا تكادُ تتقنُ طباعةَ هاتين الكلمتين في الظلام الدامس لكثرة تكرارِ نقرِ حروفهما. لا نعلم متى نكون نحن موضوعُ العزاء ولا نعلمُ عددَ التعليقات على وفاتنا. الثورةُ تحتفلُ بالذكرى السنوية لوفاتِها أيضاً. جمهوريةُ وفاة وحكومةُ وَفيات في وطن مُسَجّى. نحن خارجَ العالم ولبنان تحوّلَ من دولةٍ إلى بؤرة. جثّةُ السلطة متعفّنةٌ ولا سيارةَ دفنِ موتى تقبلُ بنقلها إلى مثواها الأخير. مشهدٌ جحيميٌ يستحقُ أن يكون فصلاً إضافياً لكتاب جحيم دانتي. أما صراخُنا فيشبه الصرخةَ التي رسَمها رامبرنت في لوحته الخالدة. صراخٌ بصوتٍ مرتفعٍ لا يسمعُه سوى مطلقُه.
” عشرة عبيد زغار ” سمَّرَنا لأسابيع على شاشة تلفزيون لبنان ونحن صِغار. خمسةُ ملايين عبدٍ صغير أضحينا في بلدنا نوصلُ نعوشَ بعضِنا البعض إلى موتٍ لا يحضرُ جنازتَه أحد. السِتّ كورونا تنوبُ عنّا في حضورِ مراسمِ الدفن. تأخذُ بالخاطر مشالحةً أمام الأهل قبل أن تنطلق في رحلةِ صيدٍ جديدة. نحن والموت أصبحنا أقاربَ لَزَم ومن عِظامِ الرَّقبَة. يتناولُ الموتُ معنا الفطور ويحتسي قهوتَه ويدخِّنُ لفافتَه معنا في عقر دارنا. دولتُنا تتفرّجُ وكأنها مدعوةٌ إلى سيرك. تلحسُ قرنَ البوظة وتنتشي برؤية الأُسود تلتهمُ رؤوسَ المدرّبين. نحن شعبٌ متروكٌ في السّهلة يَمشي فوق حقل ألغام. شعبٌ منسيٌ على رفٍّ في نمليّةٍ قديمةٍ على تتخيتةِ الإهمال. نعيشُ من قلَّةِ الموت ونموتُ من نُدرةِ الحياة.
بعدَ غدٍ نكرِّرُ مأساةَ العزلة. ستتوالى في نشرات الأخبار أنباءٌ معيبةٌ عن حكّام في خزناتهم ملايين دولاراتنا يتبارون في معاركَ على تويتر فيما يقبعُ حوالي ستين بالمئة من الشعب اللبناني تحت خطِّ الفقر. أثرى الحكّامُ ويردّونَ جميلَ الناس عليهم بوحداتٍ غذائية. قليلٌ من الحفّاضات والحمّص المسوَّس والطحين الفاسد وعلب السردين نتهي الصلاحية ستكونُ هدايا الفقراء في وطني. شعبٌ كان في طليعةِ علماءِ العالم صارَ يلحسُ ما تبقَّى من زيتٍ في عُلب السردين. لا مشانقَ ولا محاكمَ ولا من يحزنون. نظامُنا السياسي أنتجَ السردين للفقراء والبحبوحةَ للحكّام. لا فرق بين الموت على نتفلكس والموت في نعش. وطنٌ يَسقي حدائقَه المثمرة حبّاً وجمالاً بالبراز وسَواد الحيوانات الآدميّة وسط لا مبالاة العالم.
لبنان بحاجة إلى موتٍ ضروري. قيامتُه بنظامِه الحالي موتٌ متكررٌ كلَّ عشرين سنة. الهجرة؟ نعم إذا توفّرَ للناسِ سعرُ شنطةِ سفر. نتفلكس هي كندا وأوستراليا الفقراء. على متنِ أفلامِه يسافرون من الخيبةِ إلى الغيبوبة. قليلٌ من البوشار والفستق الفاضي. كوبٌ من العصير الإصطناعي وسندويشةُ لبنةٍ مقطوعةٍ على حنفيةِ المطبخ يرافقانَنا في ليالينا الحزينة. يكفي أن نشاهد فيلماً فيه بستانٌ وضفّةُ نهرٍ، فيه حقلُ ذرة وبيدرُ قمحٍ وقبلةُ عشّاق لنتذكّر أننا كنّا يوماً بستاناً وحقلاً وبيدراً وقبلَةً على ثغرِ العالَم قبل أن نصبح بئراً فيه خمسةُ ملايينِ يوسفَ رماهُم إخوتُهم ليرثوا حطامَ الدولة. نتفلكس نشاهدُه ويشاهدُنا. يتهكَّمُ على عزلتِنا. نتفلكس بالبيجاما التي سنرتديها صبحاً وظهراً ومساء.
جمعنا قليلاً من جنى العمر مما تبقّى في بنوكٍ وثقنا بها. أَودَعنا ليراتٍ لبنانية في خزناتِنا الصغيرة لإطعامِ أولادنا. نأكلُ ونشربُ على إيقاعِ المفردِ والمزدوج. نتحايلُ على القوى الأمنية فقط كرمى لمشوارٍ في الهواءِ الطَّلْق يَقينا إنفجاراً في الرأس وانهياراً في الأعصاب وتدميراً شاملاً لمعنوياتنا. نَم يا ولدي. نَم هذا هو بلدي!
from وكالة نيوز https://ift.tt/3nmj4ai
via IFTTT
0 comments: