

لاأشك على الاطلاق ان الرئيس الروسي بوتين لايستظرف الرئيس التركي ولايراه جديرا بالصداقة .. ولاشك ان الكيمياء بينهما بمستوى الصفر .. وانهما عندما يلتقيان فانهما يلتقيان مرغمين ويبتسمان للكاميرات مرغمين ويتصافحان مرغمين كغريمين قديمين .. وكلاهما يرى في الآخر خصمه فأردوغان يرى فيه بوتين الخصم الذي هبط من طوروس ويريد ان يستولي باسم الناتو على آخر قطعة من تركة الاتحاد السوفييتي والمياه الدافئة التي بقيت لروسيا في هذا العالم .. وفي نفس الوقت فان اردوغان يرى في بوتين الشخص الذي حرمه من تلك الوليمة العثمانية والطبق الرئيسي والجائزة التي انتظرها بفارغ الصبر بعد خدعة مشروع صفر مشاكل .. وسحب سورية من بين اسنانه واعاده جائعا الى قصره العثماني الفارغ خالي الوفاض مثل ضبع حرم من فريسته ..
الرئيسان في لغة الجسد يبذلان جهدا فائقا وطاقة فوق حدود تحملهما للابتسام واقناع الناظرين اليهما انهما مثل انكيدو وجلجاميش لايفرقهما الا الموت .. ويجهد الطرفان في اظهار تبادل المشاعر الدافئة وأكواز البوظة التي لاتخفي تنافسهما الذي ظهر في تلك اللحظة التي قرر اردوغان ان يسقط الطائرة الروسية في طعنة الغدر الشهيرة التي كادت ان تعيد الحرب الروسية العثمانية .. ورغم كل عبارات المجاملة والمديح والشراكة بين الرجلين لكن ما ان يفترقان حتى يكيد كل منهما للآخر .. فيذهب اردوغان فورا للانتقام من بوتين في اوكرانيا ويطلق التصريحات القاسية عن القرم ناسيا كلمات المديح والشراكة والمصالح .. فيما ينتظره بوتين الى ان يعود ويلتقط له صورا وهو ذليل ينتظر أمام الباب ليدخل وهو محاط بصور أبطال روسيا واللوحات التي تمجد الانتصارات الروسية على السلطنة العثمانية .. ويظل اردوغان منتظرا الى ان يتعب من الانتظار والاذلال ومن النظر في اللوحات التي تهينه .. وعندها يسمح له بالدخول ..
ولكن يبدو من تحليل العلاقة بين الطرفين ان بوتين يملك اليد العليا في هذه العلاقة .. وهذا ماتجسد في تلك الضربة الهائلة التي وجهتها طائراته الى معسكر لأحرار الشام في ادلب وهم قرة عين اردوغان .. الا ان تحليل الحادثة يدل على ان الرسالة لم تكن روسية نحو تركيا بل كانت رسالة تركية نحو روسيا .. فما يستغربه كل المراقبين هو برود الرد التركي وتأخره .. فقد جاء بعد تثاؤب وتمطط وكأن اردوغان تلقى خبرا بموت بعض قطعان الماشية في ادلب .. واكتفي بالقول بأن هذا الأمر غير مقبول .. ولم يغضب وهو ابو الاستعراضات الغاضبة والمسرحيات .. وكلنا نذكر استشاطاته الغاضبة والعصبية كلما تعرض للاحراج والاهانة والهزيمة .. فهو في حلب فقد اعصابه وأرسل يهدد ويتوعد وحاول المستحيل لفك الحصار عن حلب .. وعندما اصيب له جنود في ادلب جن جنونه وكاد يدخل العصفورية من شدة العصبية وظننا انه لن يعود الى قصره الا بعد ان يقتحم موسكو ودمشق معا .. ولكن هذه المرة كانت الضربة أشد ايلاما وموجعة أكثر الا ان الصراخ كان صامتا ورزينا حتى ظننت السبب هو انه اما ان اردوغان لم يسمع بالاخبار أو انني لم اكن استمع للاخبار بشكل صحيح او ان اردوغان مصاب بكورونا ووضع في الحجر الصحي أو انه في غيبوبة ..
ولفت نظري الصمت الروسي الرسمي وعدم تبني الاخبار وكأن ماحدث حدث في القطب الجنوبي حيث انهار جبل جليدي وسحق بعض قطعان البطريق .. ويفهم من هذا التجاهل الروسي أنه ربما لتجنب احراج اردوغان .. وهذا يوحي ان هذه العملية تمت بالتنسيق بين اردوغان وبوتين في سياق اتفاق أستانا .. حيث احرج اردوغان من الروس وكان عليه ان يثبت حسن نية بالالتزام بافراغ ادلب من المقاتلين قبل تسليمها دون قتال ..
فالاجتماع الذي كانت فيه قيادات أحرار الشام كان سريا وحفل التخرج المزعوم لاتدري به الا المخابرت التركية التي يمكن القول انها هي التي ترتب هذه الاجتماعات وتحدد مكانها وزمانها لأنها تعتبر انها هي المعنية بكل نشاطات هذه المنظمات وقراراتها .. ودقة الضربة فوق التجمع دليل على ان المقاتلين تم جمعهم في قرار لابادتهم في ضربة موجهة بدقة شديدة وكأن الطائرات كانت تعرف حجم القنابل التي يجب استخدامها لافناء المعسكر فألقت بنصف طن من القنابل عليه وهذا دليل على معرفة دقيقة بحجم القوة البشرية الموجودة على الارض وهي معلومات دقتها تدل على ان مصدرها المخابرات التركية بدليل انه لم يوجد في المعسكر ولا شخصية تركية عسكرية او مدنية التي تجنبت الحضور بشكل متعمد اثر تلقيها اوامر بعد المشاركة ..
وطبعا كان لابد لاردوغان من أن يقول بعض الكلمات يبيعها لجماهير المؤمنين به لرفع العتب من أنه اتصل بالرئيس بوتين وقال له (انا زعلان منك يابوتين) ..
مجمل القول روسيا وتركيا متنافرتان في عدة قضايا ولكن ضربة ادلب كانت على مايبدو هدية تركية لروسيا ورعبونا لاعادة الثقة بينهما بعد بضعة خلافات .. وكانت طريقة اردوغان في طلب الصفح والغفران من صديقه اللدود بوتين هو ان يقدم له هدية دسمة وقربانا ضخما لاعادة العلاقات المتوترة .. ويدرك اردوغان ان اظهار حسن النوايا في ادلب السورية هو أفضل طريقة لارضاء روسيا والتأكيد على انها ملتزمة بالاتفاقات الثنائية والثلاثية في أستانة .. ولذللك فانها قررت كالعادة التبرع من جيب المعارضة السورية ومن دمائها .. فتركيا لاتنظر الى هذه المجموعات من المرتزقة بعين العطف بل بعين الملكية .. وكلما قررت تسديد أثمان دفعت بهؤلاء المجانين المضحوك عليهم نحو المطحنة .. فهي ترمي بالمدنيين في البحار لتهديد اوروبا او تلقي بهم في المخيمات للتسول من اوروبا باسمهم .. وعندما تريد القيام بفتوحات تزج بمقاتلين سوريين في حروب شمال افريقيا واوراسيا .. وعندما تخشى من غضب روسيا فانها تقدمهم هدية في معسكرات ابادة لتخفف من اتهامات روسيا لها انها تنقل مقاتلين موالين لها الى مناطق نزاعات حساسة .. وكأنها تقول انها تتخلى عنهم وهي تهيء ادلب لتكون منطقة فارغة من المسلحين تدريجيا ..
لذلك فان ضربة ادلب يجب ان تقرأها المعارضة السورية الغبية على انها رسالة تركية علنية الى روسيا ولكن باطنها رسالة الى المعارضة السورية هي ان تركيا قررت التخلي عنها والتضحية بها .. وعليها ان تجد لنفسها سبيلا آخر ..
كم أنا تواق لمعرفة ردود فعل الناس عندما تظهر أسرار تركيا الاردوغانية البراغماتية التي استثمرت في جميع العرب دون استثناء وجميع الاسلاميين .. دفعت بهم ككاسحات الالغام وهي تتقدم في مشروعها العثماني .. ثم قدمتهم كهدايا وجوائز كحسن نية عندما قررت الانكفاء بهدوء ..
سيأتي يوم نقرأ جميعا ونحن مذهولون – وأستثني نفسي من الذهول طبعا – عن تركياليكس .. والعدالة والتنمية ليكس .. وعن فصل أردوغان ليكس .. وادلب ليكس .. وكل ماكتبته عن تركيا منذ بداية هذه الحرب ستظهر فصوله في ليكسات قادمة .. وكل ليكس وأنتم بخير ..
المصدر: نارام سرجون
from وكالة نيوز https://ift.tt/37UyeiU
via IFTTT
0 comments: