
الإختلاف سنة من سنن الله تعالى، فطر الناس عليها؛ وهو يعني المغايرة في الرأي والفكر، والموقف والسلوك، وهو دليل غنىً وتنوع، وثراء وتكامل، لا بد منه في الحياة المجتمعية، على أن يكون الحوار الهادئ بين المختلفين خاضعاً لمبادئ العلم والأدب، والحجة والبرهان، والصدق والإخلاص. وعندها، كما يقول المثل الشائع: «في النقاش تولد الحقيقة».
أما الخلاف فإنه غالباً ما يسلك طريقاً آخر، فيكون من سماته القول الجارح والنقد اللاذع، والمواجهة العنيفة التي قد تتحول من الحوار القاسي إلى القتال الدامي. وكان ابن مسعود يقول: «الإختلاف نعمة، والخلاف شر»، ويقول آخرون: «الإختلاف نعمة والخلاف نقمة».
وفي مجتمعنا اللبناني، التعددي بامتياز، غالباً ما كانت الأطراف السياسية تجنح في اختلاف آرائها وعلاقاتها، ومواقفها ومشاريعها، إلى الخلاف الذي هو شر ونقمة على المجتمع، وللأسف الشديد.
في 16/5/2013 كتبتُ مقالة في جريدة النهار بعنوان «لعبة حافة الهاوية»، ذكرتُ في خاتمتها: «الوسطيون، هم القادرون على الخروج، من المأزق الوطني الكبير، في هذه الظروف الصعبة، لأنهم يشكلون العقل السليم، الذي يُرشد الأطراف في الجسد، إلى العمل بانسجام وتكامل…. اللهم إن كنا نؤمن بأننا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى». ذلك أن الفكر الوسطي هو دائماً فكرٌ جامع.
واليوم، فقد تراجع الوضع العام: السياسي والإقتصادي والاجتماعي… من العام 2013 إلى يومنا هذا، تراجعاً ملحوظاً، بل وكبيراً جداً. فكان الحراك المدني في 17 تشرين الأول 2019، ثم كانت جائحة الكورونا في لبنان، في آذار 2020 بعد عدة أشهر على انتشارها في العالم، وقد وصلنا في لبنان وللأسف إلى أرقام قياسية في الإصابات والوفيات. ثم كان انفجار المرفأ في بيروت.
فكان ما كان من مبادرة فرنسية عاجلة للملمة تداعيات الإنفجار الكبير، وتزامنت مع تسمية رؤساء الحكومات السابقين للسفير الدكتور مصطفى أديب، بتشكيل الحكومة فتم تكليفه بأكثرية 90 صوتاً في مجلس النواب، جمعت معظم الكتل النيابية. ومن سمات الرئيس المكلف أنه وسطي الفكر، يتمتع بمناقبية علمية رفيعة، وديبلوماسية جامعة، صادق أمين مخلص في سلوكه، نشيط في عمله، جامع لمن حوله في خلقه وقوله وتواصله ولباقته. فكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو قيامة جديدة في لبنان.
أما الخطوة الثانية فهي في تشكيل حكومة أعضاؤها، اختصاصيون كفؤون في العلم والإدارة، وعلى دراية واسعة بالأنظمة والقوانين العامة، يتمتعون بمكارم الأخلاق، وأهمها، الوسطية الجامعة، والصدق مع الناس، ونظافة الكف، والإخلاص للوطن. يؤمنون بأن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، لا فضل لمسلميهم على مسيحييهم، ولا لمسيحييهم على مسلميهم، إلا بقوة الإنتماء الوطني والإخلاص في خدمة الوطن وفي خدمة مستقبل جميع أبنائه. ولا فضل لحزب أو تيار على آخر، إلا بما يقدمه للبنان أولاً وللبنانيين جميعهم بدون تفريق أو تمييز. إن عدم تشكيل حكومة بهذه المواصفات، سوف يُسقط ورقة التين عن كل مكونات السلطة، ويُدخل الوطن في أتون الخلافات الداخلية ومع الخارج على حد سواء، ويفقده ما بقي من رغبة في الخارج في حل تدريجي ممكن.
أما الخطوة الثالثة فهي في برنامج عمل هذه الحكومة، وأدائها في معالجات المحاور الأربع الكبرى الملحة جدا. وهي:
1.وقف الإنهيار الإقتصادي والمالي
2.تداعيات انفجار المرفأ
3.مضاعفات الكورونا
4.معالجة الفساد
إن وقف الإنهيار الإقتصادي والمالي يستوجب الإسراع في مفاوضات صندوق النقد الدولي ضمن خطة إقتصادية شاملة، والتعاون الجدي مع المبادرة الفرنسية، لإحياء مقررات «سيدر» ويَدخل في ذلك حل معضلة الكهرباء ووقف المعابر غير الشرعية… وكل ذلك مرتبط بنسبة معينة بتوافقٍ محلي في حدوده الدنيا التي لا بد منها. كما يدخل في ذلك أيضاً التحقيق الجنائي الذي وافقت عليه الحكومة المستقيلة، وتنظيم عمل المصارف بما يحفظ ويعيد للمواطنين حقوقهم وودائعهم، كما يعيد الثقة بالنظام المالي عموما.
أما معالجة تداعيات إنفجار المرفأ، فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها، تأمين المساعدات الخارجية التي تتوالى وصولاً إلى لبنان، والعمل على أن تصل إلى مستحقيها من المتضررين بعيداً عن أية محاباة حزبية أو مذهبية أو سمسرات… وما يقوم به الجيش اللبناني في هذا المضمار يجعلنا نتفاءل بذلك. والقسم الثاني، إعادة تأهيل المرفأ ومنشآته المتضررة، وقد أعربت بعض الدول الصديقة والمنظمات الدولية عن البدء في ذلك. أما القسم الثالث، فهو التحقيق القضائي في مسببات الإنفجار، ومعاقبة المسؤولين مهما علت رتبهم.
أما معالجة مضاعفات الكورونا، فهي تتطلب مقاربة علمية سليمة، وتوعية صحية واسعة من خلال إستعمال جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ضمن خطة إعلامية متقدمة، والتشدد في تطبيق الإرشادات الصحية والتعبئة العامة، ومواصلة تقديم المساعدات العينية للمتضررين في أرزاقهم بسبب ذلك. وكذلك العمل على تطوير البنى التحتية الإستشفائية بسرعة فائقة، وبما يتناسب مع ازدياد أعداد الإصابات المتسارع. كما يتطلب ذلك مقاربة افتتاح الجامعات والمدارس الرسمية والخاصة بشكل علمي دقيق، مع الإستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المضمار.
أما معالجة الفساد فتتضمن مراحل: أولها أن تكون الحكومة القادمة بعيدة كل البعد عن شبهات الهدر والفساد، لتكون بذلك موضع ثقة الناس. وثانيها أن يكون القضاء جريئاً ونزيهاً في دراسة ملفاته، خصوصاً وأن «الكل» في السلطات المتعاقبة،كان يتهم «الكل» بالفساد والهدر، ورغم ذلك لم يُفتح ملف حتى النهاية، ولم تصدر أحكام رادعة. ثالثها فتحُ الملفات التي انتشرت في كل وسائل الإعلام، ويتناولها القاصي والداني دون وصولها إلى القضاء، ولا يبدأ ذلك إلا مع إتمام المرحلتين الأولى والثانية. ورابعها ومع صدور أحكام القضاء النزيه والشفاف يكون الحديث عن استعادة الأموال المنهوبة مجدياً.
هذه المحاور الأربعة، تشكل حجر الزاوية للإنطلاق في عمل الحكومة القادمة، والإختلاف في بعض تفاصيلها، يجب أن لا يتجاوز الحدود الدنيا المسموح بها. فما لا يُدرك كلّه، لا يُترك جلّه، ولا يجوز لهذا الإختلاف أن يُفسِدَ في ودّ العيش المشترك قضية، ولأن هذه المحاور تمثل لقمة عيش المواطن بالمباشر، التي هي أولوية على ما عداها.
هذه المحاور الأربعة تتقدم على ما سواها من عناوين أخرى مطروحة أيضاً على بساط البحث – رغم أهميتها – مثال: العقد التأسيسي الجديد والدولة المدنية، وقانون انتخابي جديد وانتخابات نيابية مبكرة، واستراتيجية دفاعية، وحياد إيجابي وغيرها. هذه العناوين تحمل في طياتها إختلافا أكبر في وجهات النظر، يستوجب أدبا في الحوار، وظروفا داخلية وإقليمية ودولية أفضل مما نحن فيه الآن، ويحتمل بعض التأجيل البسيط.
أختم بالقول، بأنه لا يجوز للقيادات السياسية في لبنان أن تستمرّ في نهجها القديم، بالتعاطي مع الأزمات المستفحلة، لأن ذلك أصبح يهدد الكيان اللبناني برمته. لذلك عليها أن تَخرج من المحاصصات المعهودة، والتذاكي في ضروب العرقلات وأنواع الفساد، مفسحةً المجال لتشكيل حكومة قادرة على تخطي العقبات ومعالجة القضايا الكبرى، مع مراعاة الأولويات في كل منها.
وعودٌ على بدء. الإختلاف والتعددية في لبنان غنىً وتكامل. لنعمل معاً حتى نحقق بها «وطن الرسالة»، «لا وطن الزبالة» و«لا وطن العمولة» وحتى نحقق معاً، «وطن العيش الكريم»، «لا وطن الذل اللئيم» و«لا وطن الفقر الذميم».
الوطن على مفترق الطريق: فإما المضي المتسارع إلى الهاوية (لا سمح الله)، وإما إلى سلوك طريق الخلاص، وإزالة الأشواك من هذا الطريق.
عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى
from وكالة نيوز https://ift.tt/3bAzXK4
via IFTTT
0 comments: