
“ليبانون ديبايت” – صفاء درويش
لا يختلف اثنان على أن جبران باسيل قد شكّل بالفعل ظاهرة غير مسبوقة في عالم السياسة اللبنانية. يخرج الرجل اليوم إلى تياره واللبنانيين بنقلة نوعية تحاكي نظرته ونظرة تياره إلى البلاد. بدا واضحًا أن الرجل لا يؤمن بأنصاف الحلول بل يذهب بكل ملفّاته الحياتية والسياسية إلى أقصى الدرجات.
النقلة النوعية هذه أقدم عليها التيار الوطني الحر، حين أعلن عن ورقته السياسية التي تمثّل قناعاته وتطلّعاته نحو لبنان الذي يريد. لافتًا جدًا ما تضمّنته الورقة تجاه نظرة التيار إلى الدولة. التيار الذي صُوّر مرارًا، أكان من خلال الحملات الإعلامية عليه أو من خلال سقطات بعض من يدورون في فلكه، أنّه تيار طائفي يسعى لتكريس نفسه ممثّلًا وحيدًا لطائفة معينة، كشف بصراحة في ورقته السياسية أنه يسعى لدولة مدنية مفصولة عن الدين تقوم على نظام لامركزي اداري ومالي موسّع يكفل حياة كريمة وعصرية.
لم يكتفِ التيار في ورقته بالإشارة إلى الدولة المدنية، بل فصّل قيامها من خلال الإشارة إلى قانون مدني موحّد للأحوال الشخصيّة، تنحصر فيه علاقة الطوائف بالدولة من خلال مجلس الشيوخ الذي نصّت على إنشائه وثيقة الوفاق الوطني باعتباره ضامناً للميثاق ولخصوصيّة الكيان ولنهائيّة الوجود.
في هذا الإطار، وللمثال لا الحصر، لا يمانع التيار إقرار الزواج المدني في لبنان، وهو الأمر الذي توقفت عنده أحزاب أخرى عندما ألصقت بشعاراتها شعار الدولة المدنية دون الغوص فيه، هي التي تمانع الزواج المدني كما تمانع العديد من مشاريع فصل رجال الدين عن الحياة السياسية والإدارية. أدرجت الورقة السياسية أيضًا نظرة التيار إلى الخيارات الإقتصاديّة، الماليّة، النقديّة، والإجتماعيّة. الأولوية بالنسبة له هي نسف مبدأ الإقتصاد الريعي القائم على الإستدانة مقابل صفر انتاج، وهو ما تسبّب بشكل مباشر بوصول لبنان إلى أزمته هذه.
قيام إقتصاد منتج على أنقاض الإقتصاد الريعي يولّد فرص العمل مكافحاً البطالة في كل القطاعات ويرفد المالية العامة بإيرادات وافرة تكوّن ثروة وطنية لا تمتصّها منظومة سياسية انتفاعيّة. يعتبر التيار أن السياسية النقدية يجب أن تقوم على قاعدة خدمة المال للإقتصاد وليس العكس ليجري معها حفظ ودائع اللبنانيين ووقف الإستدانة، كما يرى التيار ضرورة الإستفادةمن بعض أصول الدولة القابلة للتصرّف بوضعها في صندوق ائتماني حفظ الحق السيادي للدولة في هذه الأصول، ويُؤمّن السيولة الكبيرة اللازمة لإطلاق نهضة تنموية شاملة.
قد تكون هذه الورقة هي مسودة بناء دولة جديدة وحديثة، وقد تصلح يومًا ما لتكون خطة اصلاحية لاقتصاد هدّمته الريعية ونخر الفساد عظامه من أقصاه إلى أقصاه، ولكن الأكيد أن الخروج بهذه الورقة وبهذا التوقيت تحديدًا دونه مؤشرات عديدة يجب التوقّف عندها.
تبرز في هذه الورقة استراتيجية التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، والتي تقوم على نقل الحياة العامة كما الإقتصاد، من منطق حاجة المواطن لحزبه وعلاقته الخدماتية الريعية معه إلى منطق الدولة التي تقدّم دون حسابات وتتلقى دون حسابات أيضًا. يتجاوز مفهوم الدولة المدنية لدى التيار وباسيل نقاطه التفصيلية ويبرز كونه مبدأ لتكريس مفهوم المواطنة لا الزبائنية. بالطبع لن يتحقق حلم باسيل بين يوم وليلة بتحويل نظرة اللبنانيين إلى السياسيين بناء على المشروع السياسي لا على أساس الخوف من الآخر، والذي يُترجم بتكريس الإنتماء المذهبي أو الزبائني، ولكن قيام هكذا ورقة لا بد أن يحفّز مختلف الأفرقاء يومًا لطرح شكل الدولة التي يريدون، فربّما تعيش أجيال لم تولد بعد بالأسلوب الذي يسعى باسيل لفرضه اليوم.
وبعيدًا عن الشأن الداخلي يكرّس التيار في ورقته الصراع اللبناني مع العدو، كما يشدد على حسن الجوار مع سوريا من دون أن يكون هذا الجوار سبباً لإعتداء على سيادةٍ أو لتدخلٍ في شؤونٍ من الجهتين أو إنتقالٍ لعدوى تفكيك النسيج، بل أن يكون سبباً لتعاون إقتصادي وتآخٍ إنساني وتكاملٍ إجتماعي. التعاون الإقتصادي والتكامل الإجتماعي يتّفقان تمامًا مع ما كان قد طرحه باسيل قبل فترة عن التوجّه نحو سوق مشرقية كون المشرق هو المجال الحيوي والرئة لاقتصاد لبنان.
ورقة التيار قد لا تُطبّق اليوم على صعيد الدولة اللبنانية، ولكنّها ستشكّل في حال أدخلها الإعلام إلى كل بيت لبناني بارقة أمل تنقل اللبنانيين من خيارات التحاصص الطائفي نحو الدولة التي ترعى المواطنة.
from وكالة نيوز https://ift.tt/2YKtoim
via IFTTT
0 comments: