Sunday, May 31, 2020

عن “الفيدرالية” و…بعض الفيدراليين

“ليبانون ديبايت” – ملكار الخوري

بين المنادين بها والمعترضين عليها، يصح بطرح الفيدرالية في لبنان المثل القائل: “يا طالب العافية من البوشرية”*.

في مضمون الطرح، يُغرق المنادون بالفيدرالية أنفسهم في تفاصيل تقنية كالأنظمة والقوانين المعتمدة في الوحدات الفيدرالية، عدد القرى والبلدات، الأنظمة التعليمية… والتي هي على أهميّتها، ثانوية أمام أولوية الإتفاق على المبدأ العام، أي فشل النظام المركزي في إدارة تعددية المجتمع اللبناني، وتحديد معايير التعددية.

لماذا التركيز على هكذا تفاصيل دون التصويب المركّز، والمبني على الحجج الثابتة، على فشل النظام المركزي في معالجة الهواجس الوجودية والهوياتيّة لمختلف المجموعات المكوّنة للشعب اللبناني؟ لماذا الغرق في جدلية تطبيق الطائف من عدمه، عوض تفنيد عدم مواءمته للطبيعة المركّبة للمجتمع اللبناني؟ ما فائدة وجود وعرض مشاريع وتصوّرات للبنان الفيدرالي، في حين أن موضوع فشل النظام الحالي من عدمه لا يزال موضع جدل؟ هل وجود هذه المشاريع والتصوّرات كافية لقلب المعايير وتعديل وجهات النظر المغايرة؟

على سبيل المثال،
تحوّل شعار البطريركية المارونية “مجد لبنان أعطي له” عام 2011 الى مادة دسمة للجدل السياسي في موضوع مَن الأكثر وطنية؟

– العلامة الشيعي السيد محمد حسين فضل الله صرّح بأن مجد لبنان يعطى لشعب ولمقاومة،
– مسيحيو 14 آذار ردّوا بطريقة غرائزية وعشوائية أن البطريركية المارونية هي في أساس قيام دولة لبنان الكبير،
– وليد جنبلاط ذكّر بثورة الدروز ضد الإنتداب الفرنسي عام 1925،
– نائب حزب الله السيد نواف الموسوي ذكّر بحيثية جبل عامل قبل قيام دولة لبنان الكبير.

طيّب، كيف لدستور الطائف حل الهواجس الوجودية في أبعادها الهويّاتية؟ من ثم، لماذا عدم الإشارة إلى البديهيات والإصرار عليها لإنتزاع إعتراف الطرف المقابل لها؟

مجدداً من خلال الوقائع:
– أين العيب في أن يكون معيار التعددية في لبنان طائفي مناطقي؟ هكذا هو التوزيع الديمغرافي على أرض الواقع!
– أين العيب في أن يكون لكل مجموعة طائفية ولكل منطقة خصوصيتها وحيثيتها الثقافية؟ ما الذي يجمعني، على الصعيد الثقافي، مع معرض يحوي مجسمات لواقعة كربلاء في قرية الخيام؟ أو لديناميكية المجتمع السني في عكّار؟
– لماذا الإفتراض بأن الإعتراف بهذه التعددية لصيقه عدم اللامبالاة أو التقوقع أو العداوة؟
– ألا يمكن أن نكون أنا، وإبن الخيام وإبن عكار أو البقاع أو غيره لبنانيين، وفي الوقت عينه لكل منا خصوصية معينة؟
– لماذا القبول بمنطق الهوية كوحدة متجانسة (أي مبنية من مكون واحد أوحد) وثابتة؟ في حين أنها مركّب متعدد المكونات والهويات المتفرّعة، وفي الوقت عينه متحرك وتفاعلي؟
– أين العيب في الإعتراف بأن فهم الهوية ومقاربتها يختلف من مجموعة إلى أخرى؟

في شكل الطرح، إنّ أكثر ما يُسيئ إلى الطرح الفيدرالي، مقاربته من باب المفاضلة بين المجتمعات المتعددة في لبنان، وإن من خلال التورية. الأمر بعكس ذلك كلياً. فالفيدرالية هدفها حفظ حقوق وكرامة المجموعات والأفراد ضمن إطار تعددي. الفيدرالية حاجة وجودية للمجتمعات التعددية، وليست باباً لقياس قيم المجموعات والأفراد وتقييمها!
لجهة المعترضين على الفيدرالية، تعكس الحجج المضادة واحد من إثنين: إمّا جهل مطلق في ماهية الفيدرالية، وهذه مصيبة؛ وإمّا إستغباء، وهذه أيضاً مصيبة.

هاكم عيّنة عن هذه الحجج:
– الفيدرالية ستؤدي إلى تقسيم لبنان.
الجواب: إفتحوا مطلق أي قاموس وإبحثوا عن الفرق بين نظامي الفيدرالية والتقسيم، “مش ع علمي بـ أميركا في 51 دولة أميركانية؛ في 51 ولاية ومقاطعة أميركانية عندن ذات العَلَم والعملة والجيش والرئيس والنشيد الوطني، وأصلن، الدولة الفيدرالية، إسما دَولة إتحادية”.

– الكانتونات الطائفية تعزل اللبنانيين عن بعضهم البعض.
الجواب: “ع أساس هلّئ كلّنا سوا بـ حالة لِحمة وتضامن. هل ما يجمعنا يتخطى الأعمال والتجارة (ما تبقى منها في ظل الأزمة الراهنة)؟ هل تكفي بعض الزيجات المختلطة على أساس القانون المدني لقول بتخطي الفواصل الطائفية؟ في عائلتي، منذ ما قبل الحرب الأهلية، وخلالها، زيجات مختلطة. إيه…ويعني؟”.

– صغر مساحة لبنان لا تحتمل نظاماُ فيدرالياً.
الجواب: “لا علاقة للمساحة بالنظام الفيدرالي”. روسيا، مساحتها 17.1 مليون كلم مربع، وعدد سكانها حوالي 142 مليون نسمة؛ سانت كيتس ونيفيس، مساحتها 261 كلم مربع، وعدد سكانها 52 ألف نسمة…كلاهما دولة فيدرالية.

– كيف أتنقل بين المناطق؟ هل أنا بحاجة إلى جواز سفر أو فيزا؟
الجواب: “هل سمع أحد يوماً بحاجة حامل للجنسية الأميركية إلى باسبور أو فيزا للإنتقال من نيويورك إلى ولاية واشنطن؟ أو من آنتوارب في الإقليم الفلامندي إلى لياج في إقليم فالونيا في بلجيكا؟”.

– الفيدرالية تخدم المشروع الصهيوني، كما أنها تبرر لها عنصريتها.
الجواب: “معيار إعتماد أو رفض أي نظام أو مشروع، هو مدى ملاءمته أم لا مع مصالح الدولة ومصالح رعاياها، وليس بتقاطعه أو لا مع مصالح دول أخرى.من ثمَّ، ما العلاقة بين العنصرية وطبيعة نظام الحكم؟”.
مُورِس نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في ظل نظام جمهوري شبه رئاسي في ظل دستور 1961، إستمر نظام العبودية في ظل نظام ملكي في المملكة العربية السعودية حتى سنة 1962.

طيّب، في حال لم يكن المعارضون لطرح الفيدرالية على دراية بهذه المعلومات البديهية، فذلك مصيبة، إذا كيف يناقشون ويعترضون على مفاهيم لا إطلاع لهم عليها؟ أمّا إذا كانوا على دراية، فتلك أيضاً مصيبة، لما في ذلك من إستغباء لمؤيّدي الطرح، ولرفضهم أي بحث غير “مؤدلج”.

مُنذ ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، تَصَدَّر شعار “إلغاء الطائفية من النفوس”، وتحت عدة مسمّيات، منابر الكلام والمقالات والتصاريح: الصهر في بوتقة وطنية واحدة، العيش والتعايش… وقد رميت الطائفية، ولا تزال، بأقذع النعوت: الطائفية الخبيثة، الطائفية الذميمة، سرطان ينهش روح الوطن، إلخ إلخ…

وبالرغم من ذلك، وبعد مرور عقود على الحرب، وعلى إتفاق الطائف وما تلاه، لا يزال إشكال فردي بين شخصَين من منطقتي الشياح وعين الرمانة يؤدي إلى توتر شيعي مسيحي. طيّب، ماذا عن إشكالية منطقة لاسا؟ ماذا عن تصاريح معترضة على قضم حقوق طائفة ما من هنا ومن هناك؟

أربعون عاماً، باءت فيها محاولات تغيير النفوس بالفشل. وبالرغم من أن ما يلي هو رأي شخصي محض، فإن دّلَ ذلك على شي، فهو أننا كلبنانيين طائفيين بتكويننا الذهني والسلوكي والمجتمعي. أين العيب في ذلك؟

طيّب، لماذا لا نحاول، ولو لمرّة، تغيير النظام ؟!

حسناً، لا بدّ من التسليم بأن التغييرات الكبرى أو المصيرية في لبنان لا تتحقق بنتيجة ديناميكية داخلية، بل ربما، أو على الأكيد كنتيجة لأخطاء وخيارات داخلية غير موفّقة.
ليس في هذا التصريح تسليم بحتمية إنعدام الفرص لتطوير النظام في لبنان من مركزي إلى فيدرالي، إنّما للتأكيد على ضرورة خلق ديناميكية داخلية مؤيّدة لهذا الطرح لإعطائه نوع من “المشروعية” الشعبية، وللتأكّد من ظهوره على شاشة رادار الدول صاحبة القرار، إلى أن يقضي الله أمراً،
والسلام.

*المثل للدلالة قديماُ على سوء مناخ المنطقة وما يتسبب به من أمراض تنفسية. مذكور في معجم الأمثال لأنيس فريحة، الصفحة 740، الطبعة الثالثة، صادرة عن “مكتبة لبنان”.



from وكالة نيوز https://ift.tt/36ShXZl
via IFTTT

Related Posts:

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل