Thursday, February 6, 2020

عذابات الليبيات وشجاعتهن: يبنين سلماً ومجتمعاً في اللادولة

احتلت ليبيا المرتبة الثالثة من حيث السوء في مؤشر المرأة والسلام والأمن (Getty)
سوسن أبوظهر- المدن

قبل مباشرة موضوعنا نتوقف إجلالاً أمام روحَي المناضلتين الليبيتين المحامية سلوى بوقعيقص والسياسية فريحة البركاوي اللتين اغتيلتا في حزيران وتموز 2014، ونوجه تحية تقدير إلى البرلمانية سهام سرقيوة المخفية قسراً منذ 17 تموز 2019، ومنها إلى كل الناشطات في بلادها.

مُحدثتُنا المحامية أميمة الفاخري كان لها نصيبُها من التهديدات التي لم تثنِها عن الالتزام برسالتها كحقوقية ومدافعة عن حقوق الإنسان. وهي اضطرت للنزوح من بنغازي ثم مغادرة البلاد قبل أن تعاود نشاطها، برغم المخاطر، وما أكثرها. ففي تشرين الأول 2019، احتلت ليبيا المرتبة الثالثة من حيث السوء بين 167 دولة في مؤشر المرأة والسلام والأمن الذي يعتمد معايير عدة بينها الأمان للنساء وقدرتهن على التوظف وفتح الحسابات المصرفية، متقدمةً على السودان وتشاد، ومتأخِرة عن العراق وسوريا واليمن. وتالياً ليس ترفاً مناقشة أجندة المرأة والسلام والأمن في مجتمع نزاع مفتوح على التصعيد واتساع الأفخاخ والألغام مع التدخلات الخارجية وتغييب مصالح الليبيين.

بين الأسوأ للنساء عالمياً؟
بداية نسأل الفاخري عن تقويمها لواقع مُواطناتها عموماً، فتجيب بأنه يتردى يومياً لأن الدولة بالكاد حاضرة. إنها أرض لا تزال مطبوعة بحروب أهلية متنقلة وسطوة الميليشيات وانتشار 20 مليون قطعة سلاح. كل ذلك يترك ندوبه على النساء في الأمن والسياسية والاقتصاد، فيواجهن العنف والتعنيف بصورِهما المختلفة، ويتحملنَ تبعات تفشي الفقر والبطالة والغلاء وشح السيولة وأزمات الكهرباء والوقود. وحلول البلاد في أسفلِ مؤشر المرأة والسلام والأمن غير مفاجئ، ذلك أن “الأمن بذاته ضائع في وطن شبه مقسم بين حكومتين ومجلس نواب هزيل وأطماع المرتزقة في ظل شبه احتلال تركي؛ بيد أن الليبيات جُبِلنَ على القوة والصمود، وتصدرن الصفوف الثورية، في التسليح والإغاثة، وصولاً إلى تزويد المساكن بحاجاتها الأساسية وإيواء النازحين”.

وتروي أن مواجهة الإرهاب المتلطي بالدين تطلبت صلابة النسوة اللواتي استطعنَ، “بشجاعة أثبتت سِعة طاقاتهن”، الإبقاء على نبض النضال بينما كانت الحياة تتقهقر إلى ما قبلِ المَدَنية. انتصرن على العتمة الطويلة وإقفال المصارف ونقص الأدوية، فاستعدنَ الوصفات الشعبية والطهي على الفحم والخَبز في البيوت. وفي موازاة الصمود المنزلي البدائي، قاومن، خصوصاً المحاميات والقاضيات، قوى الظلام، إذ أعدنَ فتح المحاكم بمبادرات فردية كي لا يخفت صوت العدالة ولتأمين حقوق النساء الأقل حظاً، مثل المطلقات اللواتي يعتشنَ وأولادهن على نفقاتٍ شحيحة. وتشيد الفاخري ببطولة ليبيات تحدينَ ذواتهن، فالأرامل والمطلقات تصدينَ لضياع الأبناء في أتون القتال وتحولنَ معيلات لأُسرهن المباشرة والممتدة. لم ينتظرنَ تمكيناً أو تدريباً، فاستثمرن في مشاريع صغيرة مدخرات العمر وبِعنَ حُليهن. وتُقر في المقابل بأن بعض النسوة تقاعسن عن تسخير أمومتهن لخدمة السلام، إذ كان بوسعهن التعاضد لتسليم السلاح المخزَّن في منازلهن، غير أنهن دفعن أولادهن إلى القتال الميليشوي نظير بدل مالي.

وعن تأثير انعدام الاستقرار والعسكرة المتزايدة للمجتمع على أجندة المرأة والسلام والأمن والنساء الأقل حظاً كالنازحات والناجيات من العنف الجنسي، تقول محدثتُنا إن الصراعات المسلحة عطَّلت أوجه الحياة، وخلَّفت تدهوراً اقتصادياً ونفسياً، فارتفعت نسبة الانفصالات ترجمة لانهيار الأمن الاجتماعي. إنها حلقة من العنف الذي يستولد نفسه، فغياب الأمن يدمِّر النفوس ويغذي التعنيف داخل الأُسر. صواريخ وقذائف وحواجز وقتل ورصاص عشوائي، وخوف ونزوح. تتفكك العائلات ويتفشى تزويج القاصرات بين الذين التجأوا إلى المدارس لعجزهم عن استئجار منازل نتيجة الضائقة الاقتصادية. في تلك البيئة حيث يتشارك النازحون الغرف والحمامات، تنعدم الخصوصية ويخشى الآباء على بناتهم القاصرات من الاختلاط و”الفضيحة والفِتنة”. ومع اضطرارهم للخروج بحثاً عن عمل، يعمدون إلى “ستر” الفتيات بالزواج، أي زواج! وفي مناخ التهجير هذا، يصطاد العنف الأطفال فينشدون الألعاب الحربية ويتضاربون لأتفه الأسباب.

وتأسف الفاخري لأن الاغتصاب الذي كان سلاحاً لترويع النساء في الثورة، بقي كذلك بعدها، ذلك أن “المرأة هي دوماً الأقل نصيباً من الأمن في أزمنة النزاع، والأكثر عرضة للاتهامات الأخلاقية والتشهير”. والانتهاكات الجنسية تشمل أيضاً تشويه السمعة كوسيلة إسكات للناشطات، وسط غياب القوانين الرادعة للجرائم الالكترونية والحامِية من التنمر.

النضال النسائي والمظلة الدولية
نستفسر عن دور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في دفع أجندة المرأة والسلام والأمن، من خلال قسم تمكين المرأة الذي يشجع المشاركة السياسية للنساء بموجب القرار 1325، فتوضح محدثتُنا أنها طرحت التساؤل نفسه على المبعوث الدولي السابق مارتن كوبلر عام 2015 وناشدته دعمَ وضع استراتيجية تُفضي إلى خطة وطنية للقرار. ماذا أجاب؟ التزم الصمت. ويُذكر أن الحديث دار قبيل توقيع اتفاق الصُخيرات تحت إشرافه في 17 كانون الأول من ذاك العام، وكان فيه مسار تفاوضي خاص بالنسوة، والفاخري التي شاركت فيه تعتبر أنه لم يكن مُجدياً. فالتفرُّع إلى حلقات للنساء والبلديات والأحزاب والمجتمع المدني شتَّت الحوار السياسي. أضِف أن “المرأة لم تكن شريكة على مستوى الندية وحضورها دون مستوى مساهمات سابقة” منها جنيف ومونترو.

محدثتُنا كانت هناك في تشرين الثاني 2015، واحدة من 40 امرأة من مختلف أنحاء ليبيا، عملنّ على أجندة نسوية للسلام والأمن تشمل محاور اقتصادية وقانونية، وملفات شائكة مثل العدالة الانتقالية والمصالحة وبناء السلام والإصلاح الدستوري ومكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي. وتشير إلى أن الحاضرات قدَّمن خريطة طريق إلى المجتمع الدولي وتمنينَ العمل بوَحيِها لتكون نواة خطة وطنية للقرار 1325، و”مذذاك لم نتقدم قيد أنملة”. وتعيب على الأمم المتحدة ذات التأثير الفاعل على المفاوضات الليبية، من مؤتمر باليرمو في تشرين الثاني 2018 إلى حوار أبوظبي في آذار 2019، أنها لم تفرض وجود النساء في تلك المسارات واستجلبت أحياناً وجوهاً مما يسمى تهكماً بـ”حزب الشنطة” أي الآتي/ة من الخارج بلا صفة تمثيلية. وتضيف أن بعثة الأمم المتحدة للدعم “تملك أرقام هواتف ناشطات وكانت تستطيع دعوتهن إلى العملية السياسية بعد تقاعس أطراف النزاع”. وتشدد على أن نجاح أي حل رهنٌ بالتصاقه بالأكثر تضرراً من الحرب، والنسوة في مقدم هؤلاء، فكيف لا يكنَّ في صدارة المتفاوضين، مع العلم أن الإقصاء تجدد في موسكو وبرلين في كانون الثاني 2020.

لنتذكر أن النساء اللواتي انخرطنَ في الثورة بقوة، ناضلنَ سياسياً أثناءها وبعدها، من “منبر المرأة الليبية من أجل السلام” عام 2011 و”شبكة 1325″ عام 2012، وصولاً إلى وثيقة “المرأة للسلام” التي شاركت الفاخري في وضعها عام 2015. تعلِّق محدثتنا على تلك المبادرات بأنها ساهمت في نشر التوعية بشأن مقتضيات الـ1325، وإن عجزت عن بلوغ المحطة المنشودة بوضع خطة وطنية في ظل الغياب الرسمي التام عن هذه الأجندة. كأن المجتمعَين المدني والنسوي أخذا على عاتقهما احتضان القرار الدولي بلفت الأنظار إلى تماثله مع الواقع الليبي كمجتمع نزاع، والتعويل على تراكم المعرفة الحقوقية ليقود إلى خطة وطنية تساعد في بناء السلام وإعادة ترميم النسيج الوطني.

وحيثما صمتت قعقعة السلاح، خصوصاً في بنغازي ودرنة، تحركت النساء لمواجهة المعوقات المجتمعية أمام حضورهن السياسي، فطالبن بتشريعات تكبح العنف ضدهن وإصلاح قانون العقوبات، وصولاً إلى التمسك بكوتا لا تقل عن 35 في المئة، من البلديات إلى مجلس النواب والحكومة. وتشدد الفاخري بواقعية على أن الكوتا ليست غاية بذاتها، فالمطلوب أن تُخرِجَ من الشرانق “نساء قياديات لا يكنَّ من التابعات لأحزاب وأطراف فيكتفين بهز الرؤوس ورفع الأيادي بلا حضور منتج”. وذاك طموح الليبيات المتجاوزات للخلافات الجهوية، يجتمعن في الخارج حين تسنح الفرصة، لأن التنقل بين المناطق محفوفٌ بالأخطار براً ورهنٌ بحالِ المطارات جواً.

في الأمن وبناء السلام
مع تلك الخلفية، كيف تُترجم الناشطات مفهوم الجندر في الصراع وإصلاح قطاع الأمن. المعادلة واضحة في ذهنِ محدثتنا، وجود المرأة في حقلِ الأمن مهم ويُعول عليه، وتالياً لا بد أن يكون حقيقياً، ملموساً ومؤثراً لتحقيق السلام. فبعدما أثبتت النساء كفاياتهن وجدارتهن الحقوقية في المحاماة والقضاء، يجب إدخالهن مجالَي الداخلية والدفاع، وخصوصاً الشرطة، لأن امرأة معنَّفة لن تثق برجل بل بابنة جنسها.

وثمة قصص نجاح تنطلق من الأطر النسائية التقليدية. ففي عام 2017 اجتمعت ممثلات عن قبيلتَي أولاد سليمان والقذاذفة برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم على مدى يومين في طرابلس لتبديد الخلافات وبناء سلام مستدام في جنوب البلاد. نسأل الفاخري عن تطوير أدوار الشيخات القبليات وتمكينهن مِن آليات الوساطة. تجيب بأن التقاليد توفر فضاءً للعدالة البديلة التي تسبق نظيرتها القضائية. فعلى سبيل المثال، تحرص المحاميات، وهي منهن، على تنفيس الاحتقان عبر المشاورات القبلية إفساحاً للصلح في قضايا القتل التي تفشت بعد الثورة لانتشار السلاح. وتشرح: “ننتهج الحوار لفض النزاعات اجتماعياً وقبلياً حتى لو استغرقنا الأمر سنة وأكثر. هدفنا حقن الدماء ومنع تهجير أفراد أسرة القاتل انتقاماً وحمايتهم من إحراق منازلهم”. ذاك دور اللجان القانونية، ومعظم أعضائها نساء، إذ تضطلع بالوساطات ثم يصادق القاضي/ة على ما يصدر عنها. إنه تطويعٌ للأعراف الاجتماعية لخدمة الأهداف القانونية تناشدُ الفاخري الأمم المتحدة استلهامَه في عملها في بلادها.

لماذا لا يتحقق ذلك، خصوصاً أن نساء أولاد سليمان والقذاذفة طالبنَ حينها المنظمة الدولية بدعم إنشاء شبكة نسائية لصنع السلام والمصالحة؟ هل ثمة فجوة بين التأييد النظري لليبيات الذي يتغنى به المجتمع الدولي وتغييبهن عن مسارات السلام والأمن نتيجة التهديدات وبعض الفتاوى الدينية المثيرة للجدل، مع العلم أن مجلس الأمن دعا في 12 أيلول 2019 “المرأة الليبية إلى المشاركة الكاملة والفعالة والهادفة في جميع الأنشطة المتعلقة بالانتقال الديموقراطي وحل النزاعات وبناء السلام”؟ تستعيد الفاخري في إجابتها التعويل على تسخير التقاليد لمصلحة النساء ليأتي وجودهن في الجيش والشرطة مدعاة فخر، لأن “على المجتمع الاقتناع بأن الدور الأمني للمرأة يصب في خدمة التوازن فيه، فحضورها في الحقل العام ليس وصمة عار”. وتناشد الهيئات المدنية والنسوية عدم انتظار دعم خارجي لا يتجاوز التمنيات والعبارات المنَّمقة، وإعداد قاعدة بيانات للنساء المؤهلات لخوض التجربتين السياسية والأمنية بكفاية وفعالية؛ والضغط لإصلاح التعليم ليزيل نمطية “عائشة تطهو، تكنس، تنظف” من النصوص والعقول.

أي مستقبل؟
وحيال تنامي التدخلات الخارجية، أي أمل في قيام دولة مدنية حاضنة للنساء؟ تقر محدثتنا بأن النضال ليس يسيراً، لكن “لا شيء مستحيلاً، فالعزيمة صلبة ولن يوقفها شبه احتلال تركي وأطماع استعمار جديد يستوحي الزمن العثماني”. ومن المؤسف أن الشواطئ الأوروبية المقابلة لليبيا عبر المتوسط لا يعنيها ما يصيب الناس في الدولة غير المستقرة طالما لم ينطلق منها يائسون في قوارب الموت.

وقبل الختام أسألها ما إذا كانت ندمت على اندلاع الثورة ومشاركتها فيها، ونحن على مشارف ذكراها التاسعة، فترد بحزم: “أبداً، لا تنسي أننا شعبٌ فُصِل عن العالم 42 سنة، ثم بهرتنا أضواء الانفتاح على الخارج وظننا أننا مدركون الحرية والكرامة الإنسانية فوراً. حاولنا المضي نحو الديموقراطية لكن انحرفت سُبُلنا إلى الإرهاب والاغتيالات. فانتفضت بنغازي مجدداً على أشخاص لهجاتهم غير ليبية أقاموا الحواجز وفرضوا الخُوات، قطعوا الرؤوس ومثَّلوا بها وتقاذفوها كرة لأقدامهم. عشنا الفقر والجوع وسُرقت خيرات البلاد وسقطت العاصمة رهينة للميليشيات وتقزَّمت حقوق النساء وتجددت الاغتصابات. الثورة كانت حقيقة ساطعة ضغطت الأجندات الخارجية والأصولية المتشددة لتلطيخها. هدفنا الأول كان دولة مدنية عمادُها القانون والمؤسسات، ولا نزال ننشدها. ويستحيل أن أندم على ذلك”.

ألا تخشين على حياتك؟ تجيبني بثقة وإيمان بأنها نجت بين عامَي 2013 و2014 من محاولتَي تصفية بعدما تلقت اتصالات تهديد. حينها “كان القضاة والمحامون في خطر ونتحدى الموت يومياً. مرة دخل علينا ملتحٍ شاهراً سلاحه فقررت زميلتي مغادرة ليبيا”. أما هي فطوردت بسيارات مسلحة والتزمت منزلها شهراً ثم صار لزاماً عليها الرحيل إلى مصر. لم تلبث هناك أكثر من أشهر ورجعت نازحة إلى محيط بنغازي لتعاود الاستقرار منذ سنتين في بيتها ومدينتها.

وننهي حديثنا بتأكيد الفاخري إيمانها بحق الجميع في التمثيل القانوني، فهي تخاف الله في القسم الذي أدته للدفاع عن الناس. وتؤكد أنه لا يمكن المرء المطالبة بقيام دولة من دون أن يساهم في الأمر. وهي تؤدي قسطها بشجاعة أمام قوس المحاكم وعبر “مركز وشم لدراسات المرأة” الذي اشتركت في تأسيسه ليراجع التشريعات المتعلقة بالنساء ويجري الأبحاث والدراسات عن النساء والسلام والأمن وجنوح بعض النسوة نحو الإرهاب.

*سوسن أبوظهر – صحافيةٌ لبنانيةٌ متابِعةٌ لقضايا اللاجئين والنساء وبناء السلام

**هذا الموضوع كُتب بالتعاون مع “الشراكة الدولية للوقاية من النزاعات المسلحة” GPPAC و”حركة السلام الدائم” من “شراكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للوقاية من النزاعات المسلحة”.



from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2UsgQvm
via IFTTT

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل