Tuesday, January 28, 2020

ما ثمن تخبّط السياسة الخارجية الأميركية؟

كانت الضربة التي استهدفت قاسم سليماني كفيلة بالكشف عن حجم التناقضات في السياسات الأميركية. ردّت طهران عبر تكثيف جهودها لفرض سيطرتها داخلياً. قد لا تحاول إيران استفزاز واشنطن وجرّها إلى مواجهة مباشرة، لكنها ستتابع على الأرجح اعتداءاتها على شركاء الأميركيين في منطقة الخليج وتزيد الضغط السياسي على العراق لإخراج القوات العسكرية الأميركية.

عُلّقَت الحملة الناجحة ضد “داعش” (هذه المهمة جلبت حوالى 20 شريكاً غربياً إلى الشرق الأوسط لتقاسم التكاليف والأعباء مع واشنطن)، إذ تُركّز قوات التحالف الآن على حماية نفسها من إيران. نتيجةً لذلك، تراجعت الضغوط على “داعش”. كذلك، تجازف أي حكومة عراقية ضعيفة بجعل الولايات المتحدة عاجزة عن البقاء في العراق بأي شكل من الأشكال، علماً أن إيران لطالما سعت إلى تحقيق هذا الهدف. إذا انسحبت الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون، ستصبح روسيا حتماً أهم شريكة أمنية لبغداد، وهي انتكاسة لا رجوع عنها بالنسبة إلى واشنطن، وسيترافق هذا الوضع مع عواقب فادحة على الشعب العراقي والمنطقة ككل.

قد تردّ إدارة ترامب على هذه الظروف المستجدة عبر اعتبار الشرق الأوسط على رأس أولوياتها، فتتخذ مبادرات لتقوية موقعها العسكري والديبلوماسي في العراق وتوضح أن واشنطن ستدافع عن شركائها في الخليج. بهذه الطريقة، ستصبح إيران، عمداً ورسمياً، المبدأ التنظيمي لسياسة ترامب الخارجية كلها، كما يحصل الآن بشكلٍ غير رسمي وغير متعمد. أو يمكن أن تعمد الإدارة الأميركية إلى تهدئة الوضع عبر فتح مسار واقعي للعلاقات الديبلوماسية مع إيران. وفق فرنسا وحلفاء آخرين، يتطلب هذا المسار أن تطرح الولايات المتحدة مطالب واضحة وقابلة للتنفيذ تزامناً مع منح إيران درجة من الراحة الاقتصادية.

لكنّ متابعة فرض أقصى درجات الضغوط من دون السير في اتجاه واضح تعكس سياسة عقيمة. لا تتماشى غاياتها غير المحدودة مع وسائلها المحدودة، وتبقى المبادرة وما يرافقها من مخاطر بيد طهران التي تهتم بضمان صمودها أكثر مما ترغب الولايات المتحدة في تدميرها.

حين خاطب ترامب بلده بعد الاعتداءات الإيرانية الصاروخية، لم يذكر شيئاً للأسف عن الشركاء الخليجيين المعرّضين للردود الانتقامية. ولم يذكر العراقيين أيضاً ولم يعلن عن أي مصالح أميركية حقيقية في الشرق الأوسط، بل قال: “نحن مستقلون ولا نحتاج إلى نفط الشرق الأوسط”! كما أنه لم يقترح أي مبادرة جدّية لتهدئة الوضع وتجديد المسار الدببلوماسي مع إيران.

ترك الرئيس انطباعاً يوحي بأن اغتيال سليماني كان عملية تكتيكية لحماية الأميركيين ولم يكن جزءاً من تغيير التوجه الاستراتيجي. طلب ترامب من حلف الناتو أن يوسّع تدخّله في الشرق الأوسط، وهي خطوة لن يقوم بها الحلف على الأرجح لأنه يتحرك بناءً على إجماع 29 عاصمة، ويلوم عدد كبير من تلك العواصم ترامب على الأزمة الراهنة. لكن رغم إقدام الإدارة الأميركية على فرض عقوبات جديدة لخنق الاقتصاد الإيراني وتعليق معركتها الخاصة ضد “داعش”، كان لافتاً أن يقترح ترامب إقامة “تعاون مشترك” بين إيران والولايات المتحدة ضد “داعش”.

هذا التشويش الاستراتيجي أصبح محور النقاشات في العواصم الإقليمية، وفي موسكو وبكين أيضاً. يظن القادة الخارجيون أن واشنطن تطبّق سياسات متطرفة في عهد رئيس متطرف لا يحمل أي أهداف واضحة أو قابلة للتنفيذ. هم مقتنعون بأن إيران قد تتابع مضايقة أصدقاء الولايات المتحدة في الخليج وتتآمر ضد الوجود الأميركي في العراق وتُرسّخ سيطرة الأسد في سوريا. طالما لا تَجُرّ طهران الأميركيين إلى مستنقعها، لن يتخذ ترامب أي خطوات كبرى. لكن إذا انجرّ الأميركيون إلى ذلك المستنقع، ستزيد مخاطر اندلاع صراع قوي وخارج عن السيطرة. لا تترك هذه الأحداث مجالاً للديبلوماسية التي يعتبرها الكثيرون شرطاً مسبقاً لمنع التصعيد.

هذا التقييم قرّب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من روسيا والصين، وحتى إيران، على اعتبار أن هذه الدول تقف في وجه واشنطن المتخبّطة. في هذا السياق، لا تفشل حملة الضغوط الأميركية ضد إيران في تحقيق أهدافها المعلنة فحسب، بل إنها تفيد قوتَين عظيمتَين صُمِّمت “استراتيجية الأمن القومي” في الأصل لمواجهتهما.

عندما نجحت هذه السياسة في خنق الاقتصاد الإيراني، حققت هذا الهدف مقابل مضايقة الحلفاء الذين تحتاج إليهم واشنطن للبقاء في المنافسة ضد خصومها الأقوياء. عمدت الولايات المتحدة إلى فرض “عقوبات ثانوية” متزايدة على إيران. هذه العقوبات تزيد القيود على حلفاء الأميركيين، بما في ذلك فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وحتى الشركات الخاصة في هذه البلدان، فتمنعها من عقد أي اتفاقيات تجارية قانونية مع إيران. من الواضح أن واشنطن تستعمل قوتها الاقتصادية لإجبار حلفائها على تطبيق سياسة يعتبرونها انهزامية وعالية المخاطر بدرجة غير مقبولة. قد يترافق هذا النهج القسري مع عواقب دائمة على الدور الأميركي في قيادة الاقتصاد العالمي الذي يرتكز جزئياً على الافتراض القائل إن واشنطن لن تُحوّل هيمنة الدولار إلى سلاح تستعمله في خضم سعيها إلى تحقيق أهداف أحادية الجانب. تحاول الصين وروسيا استغلال هذه المخاوف كلها من خلال تطوير شبكات تجارية تتجنب مصيدة العقوبات الأميركية، حتى مع الهند وتركيا.في العمق، تُعتبر سياسة واشنطن اليوم غير متماسكة بأي شكل، إذ تبدو أهدافها وأدواتها متطرفة وفرضياتها خاطئة، ويتراجع عدد حلفائها، وترتكز على فرض الضغوط حصراً، وتخلو من الديبلوماسية. في المقابل، لا يزال الشرق الأوسط عالقاً في مستنقع التصعيد، وقد تصبح تحركات الجماعات الموالية لإيران غير متوقعة بعد مقتل سليماني. وفق معيار ترامب الجديد، قد يستلزم أي هجوم يهدر دم الأميركيين رداً انتقامياً هائلاً. لكن في ظل غياب أي جهود ديبلوماسية، مقابل مضاعفة العقوبات، يزيد احتمال وقوع حوادث مماثلة وتتصاعد المخاطر المطروحة على الأميركيين في المنطقة. لهذا السبب، يتعين على الولايات المتحدة أن تحتفظ بقوة عسكرية متأهبة وواسعة في الشرق الأوسط، حتى لو تباطأت معركتها ضد “داعش” وحتى لو كانت استراتيجيتها التوجيهية الكبرى تدعو إلى التخلي عن موارد المنطقة بالكامل.

تتمحور أي استراتيجية فاعلة حول الخيارات والأولويات وتخصيص الموارد. وإذا كانت إيران على رأس الأولويات الأميركية راهناً، يجب أن تُجدد واشنطن التزامها بشؤون الشرق الأوسط، وتقوي مكانتها العسكرية والديبلوماسية في العراق وأماكن أخرى، وتوضح استعدادها للدفاع عن شركائها الخليجيين من الردود الإيرانية الانتقامية. لكن إذا كانت آسيا على رأس أولويات واشنطن، فلن تتمكن من تطبيق سياسة تغيير النظام مع إيران. بنظر بكين، يُعتبر التركيز الأميركي قصير النظر على إيران ميزة استراتيجية لأنه يُحوّل الأنظار عن منطقة المحيط الهادئ، ويُبعِد واشنطن عن حلفائها، ويسمح للصين، إلى جانب روسيا، بتوسيع نفوذهما في أنحاء الشرق الأوسط. تقيم بكين وموسكو اليوم علاقات وثيقة مع جميع بلدان المنطقة، بدءاً من إسرائيل وصولاً إلى المملكة العربية السعودية، وقد أصبح بوتين، لا ترامب، صانع القرار الأساسي بالنسبة إلى تلك العواصم.

تفتقر الإدارة الأميركية إلى مسار واضح لحل هذه التناقضات، لكن يستطيع الكونغرس أن يجبرها على تغيير مسارها. بعد أربعة عقود من الأعمال العدائية، لم يسمح الكونغرس يوماً باستعمال القوة العسكرية ضد إيران. لكن تتطلب حملة ترامب المبنية راهناً على الضغوط القصوى متابعة التهديد باستعمال تلك القوة. بعد استنزاف جزء كبير من الأدوات الاقتصادية وتوعّد إيران بردود انتقامية أخرى، وفي ظل غياب أي مظاهر للديبلوماسية، على الولايات المتحدة أن تحتفظ بقوة عسكرية مهمة في منطقة الشرق الأوسط وتطلق تهديدات صادقة باستعمالها. كذلك، يبدو أن نشر آلاف القوات الأميركية في الشرق الأوسط، تزامناً مع تحضير خطط طارئة “لإنهاء” حرب محتملة مع إيران، بدأ يصطدم بصلاحيات الكونغرس الدستورية. تكشف أحدث الاستطلاعات أن معظم الأميركيين يريدون من الكونغرس أن يعيد فرض سلطته في قرار الحرب.

لا سبب يدعو إلى تجنب هذا النقاش حتى وقوع الأزمة الحتمية المقبلة أو إخفائه وراء الأبواب المغلقة، بعيداً عن أنظار الشعب الأميركي. إذا كانت إدارة ترامب تظن فعلاً أن الولايات المتحدة يجب أن تصل إلى وضعٍ يخوّلها إنهاء الحرب مع إيران، يُفترض أن تطرح هذه الخطة أمام الكونغرس وتحاول أخذ تفويض منه. حتى الإدارة الأميركية ستستفيد حين تضطر لتوضيح أهدافها ووسائل تحقيقها والمعايير المناسبة لمحاسبتها.

يُفترض أن تتحول الأزمة الراهنة في الشرق الأوسط إلى فرصة للمطالبة بالعودة إلى أهم المبادئ الأساسية في السياسة الخارجية العقلانية، تزامناً مع تحديد الأهداف وجمع الموارد اللازمة. يجب ألا تتحقق الأهداف التي يستحيل بلوغها من دون مقايضات أو تكاليف أو مخاطر غير مقبولة. ربما رحّب الأميركيون بمقتل سليماني، فقد كان إرهابياً ويداه ملطختان بالدم. لكن من حقهم في الوقت نفسه أن يطالبوا بسياسة خارجية متماسكة ومبنية على خيارات واضحة بدل الرهانات والبحث عن الثروات.

نداء الوطن



from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2vv3lkb
via IFTTT

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل