
“ليبانون ديبايت” – رياض طوق
سنة 2016 تبدّل المشهد السياسي في لبنان. فأجمعت كل الأطراف المناوئة لحزب الله على أن سلاح الحزب هو “فوق وطني” وغير خاضع للنقاش الداخلي، وبالتالي تمّ الاقتناع بأن العمل السياسي هو تحت هذا العنوان.
فتبنى حزب القوات اللبنانية مرشّح حزب الله الى رئاسة الجمهورية العماد ميشال عون معطياً اياه شرعية مسيحية شاملة. مثله فعل تيار المستقبل، فعاد الحريري الى السراي الحكومي ضمن شرط تحييد الحزب عن كل التجاذبات الداخلية. مذ ذاك طبّق شعار “انّ حزب الله هم الغالبون” بعد أن فصّل قانوناً انتخابياً على قياسه أنتج له أكثرية نيابية وبالتالي مجلس وزراء يدور في فلكه ويعمل تحت سقفه برئاسة شخصية سياسية ضربت من بيت أبيها على يد الامير محمد بن سلمان.
وممّا أدى الى تعاظم دور حزب الله في المؤسسات الدستورية وتنصيب نفسه المرجعية الأعلى للبلاد كان توزيع المغانم والمنافع على أحزاب السلطة وذلك على طريقة “خذوا ما شئتم من الوزارات والتعيينات والصفقات والعمولات واتركوا لي قرار الدولة بما فيه علاقاتها الخارجية وسياساتها العليا وأمنها”.
فأرسى الحريري علاقة مع العهد تقوم على اقتسام الصفقات وتوزيع المغانم من ملفّ بواخر الكهرباء، مروراً بالاتصالات والتوظيفات العشوائية وصولاً الى التعهدات والتلزيمات في ملفات النفايات والسدود وبناء المعامل اضافةً الى الأملاك البحرية. أما القوات فبدت عاجزة في حكومتي السنوات الثلاث الأخيرة عن الخروج من مربع الاقصاء الذي وضعها فيه باسيل، في حين أن الحزب الاشتراكي كان يحاول جاهداً لعب دوره المعتاد كطرف اساسي في السلطة بعد أن حولته التسوية الرئاسية الى فريقٍ هامشيّ لا حول له ولا قوة.
في لحظة 17 تشرين سقطت المعادلة التي تقول بأن الحزب يحمي المنظومة التي تنهش مقدرات الدولة مقابل حمايتها للسلاح، وبالحدّ الأدنى تحييده عن التجاذبات اذا عجزت عن ذلك. وهذا ما فعلته كلّ القوى السياسية المشاركة في حكومتي العهد منذ سنة 2016 وحتى اليوم. ولكنّ الحزب لم يستطع حماية هذه الطبقة، اذ سقط الركن الأساسي فيها أي الحكومة تحت ضغط الشارع. وبالتالي بدأ العقد بين الحزب وباقي الاحزاب يترنّح نتيجة عدم تمكنه من الايفاء بوعوده بابقائها سالمة غانمة.
اليوم تبدّل المشهد، فالسلطة التي حاولت يائسة قمع الاحتجاجات وترهيب الناس عبر استخدام الجيش الذي خيّب أملها لأنّ أداءه يختلف عن أداء الجيوش العربية التي غالباً ما تكون في خدمة الأنظمة الحاكمة.
لذلك شرع حزب الله ومعه حركة أمل وبرضى الفريق الرئاسي بتنفيذ خطة بديلة تقوم على زجّ فتية الشوارع التابعين للثنائي الشيعي في شوارع مقابلة لقمع الاحتجاجات ونشر الفوضى على طريقة الأنظمة الاستبدادية التي أطلقت الباسيج في ايران والشبيحة في سوريا والبلطجية في مصر وكتائب القذافي في ليبيا.
الا أن هؤلاء أمعنوا في التكسير والتخريب والاعتداء على المتظاهرين على جسر الرينغ مساء الأحد محاولين ترويع الأحياء السكنية الآمنة على تخوم الأشرفية والصيفي، وليل الاثنين أعادوا المشهد العنيف في صور وبعض مناطق بيروت.
هؤلاء بمعظمهم لا يعرفون أصلاً لماذا هم في مواجهة مواطنيهم. ولكنهم باتوا يدركون أن ما من أحد يرغب في مواجهتهم عنفياً، وربما هذا أكثر ما أغاظهم. ففائض القوة الذين يشعرون به نتيجة تسلح الحزب ونفوذ الرئيس بري في الدولة لم يسعفهم في مواجهة خصمهم “المفترض”.
فمدنيّة المتظاهرين وسلميتهم لم تستجب لرغبتهم في اشعال فتيل الحرب الأهلية التي طالما هددت مرجعياتهم بها. ففي حين كانوا يهتفون “شيعة شيعة” قابلهم المتظاهرون بانشاد “كلنا للوطن”، وعندما نادوا “يا حسين” قوبلوا بهتافات “سلمية سلمية” وبوعيٍ عميق بأنّ هؤلاء الفتيان الفقراء والعاطلين عن العمل لا يمثلّون طائفة وانما سلطة حزبية تجعلهم وقوداً في تأبيد سيطرتها الداخلية ومشاريعها السياسية.
هذه المشهدية ان دلت على شيء فانما على ان الجوهر الحقيقي للثورة بات يحرج قيادتي الثنائي الشيعي. فهما لا يريدانها لا مدنية ولا سلمية. وبالتالي لا يمكن اطفاؤها الا اذا استدرجاها الى ملعبهما. فتحويل الثورة الى معركة طائفية يكسبهما المعركة لأنهما يعيشان العصر الذهبي “للشيعية السياسية” بكل تجلياتها في الادارة والأمن والاقتصاد والأجندة الاقليمية والتي عملا من أجلها عقوداً.
واذا تحولت هذه الثورة الى معركة سياسية تشبه حالة 14 آذار الحزبية فهي حتماً خاسرة نتيجة التفوق النوعي لحزب الله. واذا أُدخلت في صراع المحاور، فان ما يسمى بمحور الممانعة هو المنتصر حتى الساعة. واذا تحولت الى ثورة عنفية فهي ساقطة حتماً لأن من أطلق هذه الثورة ومن أعطاها زخمها هم مواطنون لاعنفيون بطبيعتهم وبأهوائهم وميولهم وثقافتهم ونمط حياتهم.
حتى هذه اللحظة لا يبدو أن جمهور الانتفاضة ليس في وارد تقديم أيّ حجة مما سبق ذكره لاخماد هذه الثورة. وبالتالي ستصبح مبررات الحزب أضعف في مواجهتها. حتى أن الحزب نفسه يعرف أن استعمال ورقة المستقبل والقوات لاحراج الثورة لم يعد مقنعاً لأحد.
فالهتافات والشعارات التي طالت فريق الحريري السياسي- المالي فاقت الهجوم على منظومة برّي. أما القوات التي حاولت جاهدةً التعويض عن مشاركتها في صناعة السلطة الحالية عبر الانخراط في أدبيات الثورة، فانّ الشارع لم يتلقفها الا من خلال المجموعات الشبابية الدائرة في فلكها والمشاركة في الاحتجاجات، هذه المجموعات كانت ستشارك في هذه التظاهرات نتيجة وضعها الاجتماعي والاقتصادي حتى ولو كان سمير جعجع نفسه هو رئيس السلطة في لبنان.
اذاً الصورة واضحة، انّ الحزب مربك، وهو يعرف انه يخوض حرباً افتراضية مع عدوّ مفترض، والحرب من جهة واحدة تشبه الحب من طرف واحد الذي يؤدي الى احباط وقلق وشقاء صاحبه.
وهنا يبدو أن الحزب سيستمر في سيناريو الترهيب وقد يلجأ الى وضع خطة لاستكمال المشهد العدائي الذي أظهره في الساعات الماضية، وهي ستقوم على مزيد من استعراضات القوة والفيديوهات التي تظهر شباناً يرتدون الأسود أو مسلحين يجوبون الشوارع بسيارات رباعية الدفع وبمسيرات الدراجات النارية.
ولكن هذا كله لن يقف في وجه تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، فالدولار الأميركي قد تخطى سعره الألفي ليرة، اضافةً الى مماطلة السلطة التي لم تبادر الى اتخاذ ولو اجراء واحد للجم هذا التدهور عبر تشكيل حكومة انقاذ تتصدى للانهيار النقدي.
فحزب الله هو من يضع شروط التكليف والتأليف، غير آبهٍ بما تجرّه هذه المماطلة من كوارث اجتماعية واقتصادية وانسانية قد تفوق قدرته وقدرة السلطة التي تأتمر به على السيطرة على تداعيات هذا الانهيار. ولا يخفى على أحد أن شارعه الذي يأتمر به اليوم سيكون ضحية هذه الرهانات القاتلة التي ستقوده حتماً الى الجوع.
ومّما يدعو الى العجب زيادةً على ارتباك السلطة والصراع بين أركانها والبلاد في الهاوية، هو لجوء الثنائي الشيعي الى عنف الشوارع وتفكيك النسيج اللبناني الذي لم يشفى بعد من أمراض الحرب الأهلية خاصّةً أن أحد طرفي هذا الثنائي هو مؤتمنٌ على الحياة التشريعية في البلاد. وهذا مؤشرٌ على تخبّط الشيعية السياسية التي لم تحسن قراءة التعدّد والتنوّع اللبناني، والتي لجأت الى استعداء غالبية اللبنانيين عبر انكارها الغضب والنقمة وعبر اعتمادها أسلوب فرض أنماط فكرية وثقافية معادية للمنطق السائد اليوم والمرتكز على مطالب اجتماعية واقتصادية بحتة. وانّ عسكرة قسم من المجتمع للحفاظ على الأوضاع الشاذة القائمة التي أدّت الى انفجار 17 تشرين لن تزيدها قوة ولن تحصّنها في الداخل.
ومن عوارض اهتزاز الشيعية السياسية هو نجاح الانتفاضة الشعبية في اسقاط الحكومة رغم تشديد السيد حسن نصرالله على التحذير من اسقاطها. اضافةً الى نجاحها في منع انعقاد الجلسة التشريعية واقفال المجلس، علماً أن الرئيس بري وطوال عقودٍ من الزمن كان هو من يقرّر منفرداً اغلاق المجلس واعادة فتحه.
وفي حال استمرّت هذه المراوحة وهذا التجاهل لصرخات مئات آلاف المتضررين، قد تصل الشيعية السياسية الى حيث وصلتا من قبلها المارونية السياسية والسنية السياسية اللتين عانتا من خيارات قاتلة، يوم أمعنت الأولى في الانكار والمكابرة وعدم القراءة الجيدة لعلامات الأزمنة، وفي حين كانت الثانية تنخرط في رهانها على القوى العربية الناشئة خارج الحدود.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2rs4PJS
via IFTTT
0 comments: