ما بين أقاصي الشرق في مقاطعة تشيكوتكا الروسيّة المتاخمة لولاية ألاسكا الأميركيّة وما بين أقاصي الغرب في جيب كالينينغراد الممتدّ داخل المدى الأوروبيّ، توجَّه أكثر من مئةٍ واثنيْ عشر مليونًا من الناخبين الروس إلى صناديق الاقتراع اليوم الأحد للإدلاء بأصواتهم في دورة الانتخابات الرئاسيّة السابعة التي تُجرى في البلاد منذ تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ عام 1991، والتي يتنافس فيها ثمانية مترشّحين يمثِّلون أحزابًا وتيّاراتٍ فكريّةً وسياسيّةً متباينةً، من بينهم صاحب الحظّ الأوفر في الفوز، وفقًا لما تؤشِّر إليه استطلاعات الرأي مسبَقًا، أيْ الرئيس الحاليّ فلاديمير بوتين، وذلك على رغم كافّة الحملات الدعائيّة الغربيّة المركَّزة ضدَّه، والتي كانت شراستها قد ازدادت بشكلٍ غيرِ مسبوقٍ في الآونة الأخيرة.
لا شكّ في أنّ الاتّهام الذي وجَّهته رئيسة الوزراء البريطانيّة تيريزا ماي لروسيا نهار الاثنين الماضي بالضلوع في محاولة اغتيال العقيد السابق في الاستخبارات الروسيّة سيرغي سكريبال وابنته يوليا بغاز الأعصاب في مدينة سالزبوري بتاريخ الرابع من شهر آذار الجاري، بدا منذ الوهلة الأولى وكأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من تلك الحملات، ولا سيّما من حيث النبرة والوسيلة المستخدَمة في إطلاقه أمام أعضاء مجلس العموم في لندن، ناهيك عن أنّ بعض الحقائق التي تكشَّفت خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية بخصوص وجود الجاسوس المسمَّم سكريبال في أحد المشافي البريطانيّة حاليًّا من دون أيِّ حراسةٍ أمنيّةٍ محلّيّةٍ، حسب ما أعلنه الديبلوماسيّ الروسيّ السابق في بيروت سيرغي فوروبيوف لدى استضافته على شاشة قناة “روسيا اليوم”، ما لبثت أن أثارت الكثير من الشبهات حول الهدف الحقيقيّ الذي أرادت السيّدة ماي بلوغه من وراء فتحٍ ملفٍّ خطيرٍ على هذه الشاكلة في مثل هذا التوقيت بالتحديد.
وإذا كان فوروبيوف قد عبَّر عن اعتقاده بأنّ بريطانيا تلعب في الوقت الراهن دورًا بالوكالة عن الغرب الأميركيّ والأوروبيّ ضدَّ روسيا، فإنّ ما يعزِّز الاعتقاد بوجودِ حملةٍ دعائيّةٍ ممنهَجةٍ تستهدف تعكير مزاج الناخب الروسيّ قبيْل توجُّهه إلى صناديق الاقتراع، وعلاوةً على ما شهدناه خلال الأيّام الثلاثة الماضية من عمليّاتِ طردٍ متبادَلٍ للديبلوماسيّين في كلٍّ من لندن وموسكو، يتمثَّل في أنّ الوكالة البريطانيّة المذكورة جاءت في الأصل بعدما كانت الولايات المتّحدة قد رصدت ميزانيّةً بقيمةِ خمسمئةِ مليونِ دولارٍ من أجل محاولة التأثير على مجرى الدورة الانتخابيّة الروسيّة، بما من شأنه أن يُجيَّر في نهاية المطاف لصالح سياسات واشنطن على الساحتين الدوليّة والإقليميّة، وبالتاليّ، أن لا يصبَّ في مصلحة موسكو، وهي الميزانيّة التي كان المترشِّح عن الحزب الديمقراطيّ الليبراليّ فلاديمير جيرونوفسكي قد كشف عن سرِّها خلال حملته الانتخابيّة قبل عدّة أسابيع.
شفافية الإقتراع
من هنا، وبالنظر إلى أنّ شواهد الماضي غالبًا ما أثبتت أنّ لا شيء في روسيا يُمكن أن يُثير غيظ الأميركيّين والأوروبيّين أكثر من مسألة بقاء فلاديمير بوتين في قصر الكرملين لولايةٍ رئاسيّةٍ جديدةٍ، حسب ما يُتوقَّع أن تُظهره النتائج الأوليّة للانتخابات لدى إقفال صناديق الاقتراع في وقتٍ لاحقٍ من مساء اليوم الأحد، يُصبح في الإمكان القول إنّ هذه الدورة الانتخابيّة ستُسجَّل من دون أدنى شكٍّ باعتبارها الأهمّ من نوعها في التاريخ الروسيّ الحديث، ليس بالضرورة لأنّها ستُثبت أنّ السِحر سينقلب في نهاية المطاف على صنّاع تعاويذه الشرّيرة في الفضاءات الأميركيّة والأوروبيّة والأطلسيّة وحسب، وإنّما لأنّ درجة الشفافيّة المعتمَدة في عمليّات الاقتراع، سواءٌ من حيث وجود أكثر من ألفٍ وخمسمئةٍ مراقبٍ دوليٍّ أم من حيث استخدام أكثر التقنيّات تطوُّرًا، للإشراف على سير هذه الدورة الانتخابيّة، ستجعل من الصعب على أيِّ دولةٍ مغتاظةٍ التشكيك في نتائجها، اللهمّ إلّا إذا قُدِّر للمعايير المزدوَجة أن تُصبح مرضًا غربيًّا مزمِنًا، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة مادلين أولبرايت كانت قد شكَّكت في نزاهة نتائج الانتخابات المبكِّرة التي أفضت إلى فوز فلاديمير بوتين للمرّة الأولى بسدّة الرئاسة يوم السادس والعشرين من شهر آذار عام 2000، على رغم إعلان لجنة الرقابة الأوروبيّة عن أنّ عمليّات الاقتراع جرت وقتذاك على أحسن وجه.
في ذلك اليوم، وبينما كان الغرب يُركِّز حملته الدعائيّة على انتقاد ماضي الرئيس بوتين الاستخباراتيّ خلال الحقبة السوفييتيّة في لجنة أمن الدولة (كي جي بي) للشهر الثالث على التوالي، أيْ في أعقاب تسلُّمه مقاليد الحكم بصفةِ رئيسٍ بالإنابةِ إثر استقالة الرئيس الراحل بوريس يلتسين ليلة الحادي والثلاثين من شهر كانون الأوّل عام 1999، أذكُر أنّني سُئلتُ لدى خروجي في بثٍّ مباشِرٍ من موسكو عمّا يُمكن أن أتصوَّره بالنسبة إلى مستقبل روسيا إذا ما تمكَّن هذا الرجل، بماضيه الاستخباراتيّ، من الفوز فعلًا في الانتخابات، وذلك قبيْل الإعلان عن النتائج بقرابة الساعتين، فأجبتُ بما حرفيّته: “إنّ فلاديمير بوتين لن يكون أوّلَ رئيسٍ يأتي من المدرسة الاستخباراتيّة في العالم ولن يكون الأخير. ولكن في الحالة الروسيّة، وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ ولاء رجال (كي جي بي) لمؤسّسات الدولة خلال الحقبة السوفييتيّة كان أقوى من ولائهم لمؤسّسات الحزب الشيوعيّ الحاكم، وأنّ هؤلاء الرجال كانوا يعرفون أخطاء المسؤولين الحزبيّين أكثر من غيرهم، وأنّهم قياسًا بأولئك المسؤولين الحزبيّين، كانوا يرون أثناء سفرهم في مهمّاتٍ خارجيّةٍ إلى العالم الأشياء التي يُحظر على السوفييتيّ الاطّلاع عليها، وليس الأشياء التي يرغب البلد المُضيف في تسويقها للمسؤول الحزبيّ لدى قيامه بزيارةٍ رسميّةٍ للبلد نفسه، فإنّنا سنجد أنّ أيَّ شخصٍ يمتلك الخبرات التي اكتسبها بوتين خلال ماضيه الاستخباراتيّ، من خلال إلمامه بما هو جيِّدٌ وبما هو سيّءٌ في العالم، سيكون الأجدر لقيادة روسيا في هذه المرحلة الصعبة”.
وإذا كان هذا ما قلتُه قبل ثمانية عشر عامًا بالتمام والكمال، فحسبي أن أجزم اليوم بأنّ هذه الصفات هي التي أحبَّها الروس لاحقًا أكثر من سواها في شخصيّة رئيسهم الذي نقلهم إلى الألفيّة الثالثة من زمان فساد الأوليغارشيّة المتوحِّشة إلى زمان الوهَج والعنفوان.. وحسبي أنّ النتائج الأوليّة للانتخابات التي ستظهَر تباعًا هذه الليلة ستقول كلمتها الحاسمة مجدَّدًا بخصوص بقاء فلاديمير بوتين المحتَّم على رأس السلطة في ولايةٍ جديدةٍ تستمرّ لغاية عام 2024، حيث الخير دائمًا في صناديق الاقتراع هذه المرّة، على غرار سابقاتها، وما على المغتاظين من النتائج المتوقَّعة، خارج روسيا، سوى الترقُّب واليقين.
جمال دملج خاص “لبنان 24”
from تحقيقات – ملفات – wakalanews.com http://ift.tt/2GGj29M
via IFTTT
0 comments: