على رغم تبايُن الآراء والتقديرات حول ما إذا كان في الإمكان الجزم بأنّ نتائج مؤتمر الحوار الوطنيّ السوريّ الذي استضافته مدينة سوتشي يوميْ الاثنين والثلاثاء الماضييْن ارتقت إلى مستوى آمال وتطلُّعات المشاركين فيه أم إنّها بقيت تحت سقف التوقُّعات المطروحة، فإنّ الأمر الذي يُفترَض أن يبقى خارج نطاق الجدل الدائر في سياق هذا التبايُن، وبعيدًا عن أيِّ شكلٍ من أشكال التجاذب أو التوظيف السياسيّ، يتمثَّل في أنّ مجرَّد نجاح المضيف الروسيّ في اجتياز قطوع المؤتمر بسلامٍ، والتغلُّب على كافّة العقبات التي وُضِعت في طريقه، لا بدَّ من أن يُسجَّل باعتباره الإنجاز الأهمّ من نوعه على صعيد الجهود الديبلوماسيّة المبذولة من أجل التوصُّل إلى تسويةٍ سياسيّةٍ للأزمة السوريّة، وخصوصًا بعدما اتَّضح للجميع أنّ ثمّة ضغوطًا دوليّةً وإقليميّةً شديدةً مورسَت بالفعل على عددٍ من أعضاء الوفود لمنعهم من المشارِكة، وذلك في إطار المساعي غير الحميدة التي استهدَفت منذ البداية العمل على تقويض المؤتمر وإفشاله.
لا شكّ في أنّ الإشكاليّة التي أدّت صباح أوّل من أمس الثلاثاء إلى تأخير موعد الافتتاح قرابة الساعتين من الوقت بسبب رفض وفد فصائل المعارضة الآتي من أنقرة مغادرة مطار سوتشي لدى وصوله إليه، احتجاجًا على إدراج العلم الرسميّ السوريّ ضمن شعار المؤتمر، كادت تُصنَّف على أنّها إحدى تجلّيات تلك المساعي غير الحميدة، ولا سيّما أنّ قيام الوفد بتعليق مشاركته والعودة إلى تركيا في اللحظات الأخيرة، بعدما فوَّض الجانب التركيّ تمثيله في متابعة أعمال تشكيل لجنة الدستور، سرعان ما تسبَّب بدوره في إثارةِ موجةٍ من التساؤلات عمّا إذا كان هذا التصرُّف مقصودًا ومخطَّطًا له عن سابقِ عزمٍ وتصميمٍ أم لا، وهي التساؤلات نفسها التي ما لبث أن تردَّد صداها لاحقًا داخل قاعة المؤتمر بينما كان الوزير سيرغي لافروف يلقي كلمة الافتتاح، وذلك على خلفيّة تصاعُدِ هتافاتٍ ندّيّةٍ وكيديّةٍ بشكلٍ مفاجىءٍ في أوساط عددٍ من المشاركين.
المصالح التركيّة
وإذا كان البعض قد ذهب إلى حدِّ الاعتقاد بأنّ تركيا لعبت دورًا مصلحيًّا في التسبُّب بما حصل يومذاك من إرباكٍ مؤقَّتٍ في سوتشي، سعيًا إلى الحيلولة دون ظهور أيِّ أصواتٍ مندِّدة باستمرار عمليّاتها العسكريّة في عفرين، وبالتالي، بغية إظهار مدى تأثيرها على بعض فصائل المعارَضة التي ترعاها في الداخل السوريّ وتحسين موقعها باعتبارها إحدى الدول الثلاث الضامنة للمؤتمر في إطار مسار أستانا، إلى جانب كلٍّ من روسيا وإيران، فإنّ الاتّصال الهاتفيّ الذي جرى نهار أمس الأربعاء بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيّب أردوغان، سرعان ما دلَّ إلى وجود نوعٍ من المبالغة لدى التحدُّث عن صوابيّة هذا الاعتقاد، ولا سيّما بعدما أعرب الزعيمان عن ارتياحهما للنتائج التي تحقَّقت في المؤتمر، قبل أن يؤكِّدا على ضرورة تنفيذ الاتّفاقات التي تمَّ التوصُّل إليها لصالح التسوية السياسيّة في سوريا على أساس قرار مجلس الأمن الدوليّ رقم 2254.
الرسائل المشفَّرة
من هنا، وبالنظر إلى أنّ إعلان هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارَضة السوريّة نهار السبت الماضي عن مقاطعتها للمؤتمر بحجّة التذرُّع بأنّه لن يُفضي إلى تحقيق أيِّ نتائجَ عمليّةٍ، بدا وكأنّه يندرج في سياق الضغوط الدوليّة والإقليميّة الآنفة الذكر، ولا سيّما بعدما تزامَن مع إطلاق حملةٍ إعلاميّةٍ واسعة النطاق استهدفت الترويج لفكرةٍ مؤدّاها أنّه مؤتمرٌ محكومٌ بالفشل مسبَقًا، وكذلك مع قيام الولايات المتّحدة بإدراج مئةٍ وأربعةَ عشرَ شخصًا من أبرز المسؤولين الروس في إدارة الرئيس بوتين وغيرهم من رجال الأعمال الكبار ضمن قائمةِ عقوباتٍ محتمَلةٍ ضدَّهم في إطار ما يُسمّى بـ “قانون مكافحة خصوم أميركا”، ومن ثمّ مع تحليق طائرةِ استطلاعٍ أميركيّةٍ فوق مياه البحر الأسود الذي تُطلّ عليه مدينة سوتشي قبل أن تضطرّ إحدى المقاتلات الروسيّة إلى اعتراضها، يُصبح في الإمكان القول إنّ آفاق التعاون الروسيّ – التركيّ – الإيرانيّ لا يُفترَض أن تبقى مقتصرةً على المجال الحيويّ السوريّ وحسب، بل أصبحت تستوجب فتحها على مختلف دول الإقليم، وخصوصًا إذا أضفنا إلى كلّ ما تقدَّم ذكره أعلاه أنّ الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو لروسيا قبل يومٍ واحدٍ من انطلاقة فعاليّات مؤتمر سوتشي، حملت في طيّاتها ما يكفي من المؤشِّرات للدلالة على أنّ الهواجس التي تعاني منها الدولة العبريّة جرّاء نجاح الجهود المشترَكة للدول الثلاث في الملفّ السوريّ، باتت تُنذر باحتمالات القيام بمغامراتٍ عسكريّةٍ متهوِّرةٍ من شأنها أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى نسف تلك الجهود، أو إلى تعطيلها، الأمر الذي يحتِّم على روسيا وتركيا وإيران مواصلة العمل معًا على طريق ترسيخ إنجازاتهم على الساحة السوريّة وتحصينها، بما يضمن الحيلولة دون استلام المزيد من الرسائل المشفَّرة، الأميركيّة منها والإسرائيليّة على حدٍّ سواء.
البادرة الإيرانيّة
في هذا السياق، جاءت اللقاءات المنفصلة التي أجراها مساعد وزير الخارجيّة الإيرانيّ للشؤون السياسيّة الخاصّة حسين جابري أنصاري مع شخصيّاتٍ من المعارضة السوريّة على هامش مؤتمر سوتشي لتعبِّر عن بادرةٍ طيّبةٍ أضفت على أجواء الوفود المشارِكة المزيد من مشاعر الاطمئنان، ولا سيّما بعدما تركّزت مباحثاته مع كلٍّ من هيثم منّاع وإليان مسعد ولؤي حسين ورندة قسيس وميس الكريدي ومنى غانم وأسماء كفتارو على نمط تقدُّم المحادثات في المؤتمر، والسبل التي من شأنها أن تؤدّي إلى إعادة الأمن والاستقرار والسلام في سوريا، وهي السبل التي يُفترَض أن يتمّ بحثها بإسهابٍ، وبقوّةِ دفعٍ إضافيّةٍ مستمدَّةٍ من نتائج مؤتمر الحوار الوطنيّ الأخير، أثناء انعقاد الجولة المقبلة من مفاوضات أستانا المقرَّرة في أواخر شهر شباط الجاري.
وإذا كان البيان الختاميّ الصادر عن المؤتمر قد حدَّد أبرز هذه النتائج في الاتّفاق على تشكيلِ لجنةٍ دستوريّةٍ مشتركةٍ من الحكومة والمعارضة من أجل صياغة إصلاحٍ دستوريٍّ سوريٍّ يُسهم في التسوية السياسيّة التي ترعاها الأمم المتّحدة في إطار مفاوضات جنيف، يُصبح في الإمكان القول إنّ الشراكة الروسيّة – التركيّة – الإيرانيّة أثبتت بالفعل جدارتها في مجال تحقيق إنجازٍ على هذا القدر من الأهمّيّة في غضون يومٍ واحدٍ فقط.. وحسبي أنّ الكرة أصبحت الآن في ملعب المبعوث الأمميّ الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا الذي كان شاهدَ عيانٍ على هذا الإنجاز، عسى أن يتعلَّم منه كيف يكسر الجليد لكي يصنع الإنجازات.. والخير دائمًا من وراء القصد.
from تحقيقات – ملفات – wakalanews.com http://ift.tt/2rViuZP
via IFTTT
0 comments: