بغضّ النظر عمّا إذا كان سيُقدَّر لهدنة الساعات الخمس الإنسانيّة التي دخلت حيِّز التنفيذ اعتبارًا من صباح اليوم الثلاثاء في الغوطة الشرقيّة قرب دمشق أن تصمد على مدى الأيّام المقبلة أم لا، فإنّ مجرَّد الإعلان عنها البارحة على لسان وزير الدفاع الروسيّ سيرغي شويغو، بعدما كان الرئيس فلاديمير بوتين قد أصدر توجيهاته في هذا الخصوص، سرعان ما عكس في سياقه مدى رغبة موسكو في تشجيع كافّة الأطراف المنخرطة في الأزمة السوريّة على الاستجابة مع قرار هدنة الثلاثين يومًا الصادر عن مجلس الأمن الدوليّ تحت الرقم 2401 نهار السبت الماضي، عن طريق البدء بوضع آليّةٍ عمليّةٍ لتطبيقه على الفور، ولا سيّما أنّ نسبة التوجُّس الروسيّ من احتمال قيام الأميركيّين بمغامرةٍ عسكريّةٍ متهوِّرةٍ لإسقاط نظام الرئيس بشّار الأسد كانت قد وصلت في الآونة الأخيرة إلى ذروتها، الأمر الذي يفسِّر سبب عدم تردُّد وزير الخارجيّة سيرغي لافروف في تحذير الولايات المتّحدة، بشكلٍ مباشِرٍ وبصريحِ العبارة، من مغبّة “اللعب بالنار في سوريا”، على حدِّ تعبيره، وهو التحذير الذي جاء على خلفيّة معلوماتٍ بالغةِ الخطورةِ تلقَّفتها الدوائر الأمنيّة في موسكو قبل قرابة الأسبوعين، ومؤدّاها أنّ واشنطن تعتزم الإيعاز للفصائل المسلَّحة التي تدعمها بتوجيه ضربةٍ كيميائيّةٍ ضدَّ المدنيّين من أجل اتّهام النظام السوريّ بتنفيذها، وبالتالي، من أجل إيجاد المبرِّرات اللازمة للشروع في استهداف مؤسّساته ومنشآته بصواريخ الـ”توماهوك” التي يُقال إنّها أصبحت جاهزةً الآن لإطلاقها بالفعل.
لا شكّ في أنّ إعلان الرئيس دونالد ترامب مؤخَّرًا عن أنّ إدارته تبحث إمكانيّة القيام بأعمالٍ عسكريّةٍ في سوريا “لمنع استخدام السلاح الكيميائيّ”، كان من بين العوامل الأساسيّة التي أدَّت إلى رفع منسوب التوجُّس الروسيّ من احتمالات إقدام واشنطن على “اللعب بالنار” هناك، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ موسكو، ووفقًا لمفردات لغة تخاطبها التقليديّة مع المجتمع الدوليّ، تدرك إلى درجة اليقين الكامل حقيقةً راسخةً مؤدّاها أنّ أيَّ اتّهاماتٍ أميركيّةٍ للنظام السوريّ باستخدام هذا النوع من السلاح، سواءُ في أوقاتٍ سابقةٍ أم في أوقاتٍ لاحقةٍ، ستبقى فارغةً من أيِّ مضمونٍ منطقيٍّ أو قانونيٍّ في ظلّ عدم إجراء تحقيقاتٍ حياديّةٍ وشفّافةٍ حولها، ناهيك عن أنّ معظم المسؤولين والخبراء السياسيّين والعسكريّين والأكاديميّين الروس يدركون أيضًا، وهذا هو الأهمّ، أنّ تجربة استهداف قاعدة الشعيرات العسكريّة السوريّة بتسعةٍ وخمسينَ صاروخًا من طراز “توماهوك” في شهر نيسان من العام الماضي، تحت شعار القضاء على الأسلحة الكيميائيّة، وإنْ كانت قد أفقدَت الولايات المتّحدة الكثير من عناصر هيبتها وصدقيّتها في الميدان السوريّ، ولكنّها أثبتت في الموازاة مدى استبداد النزعة التهوُّريّة بسلوكيّات المخطِّطين الاستراتيجيّين في البنتاغون أثناء “أوقات الشِدّة”، على غرار ما يحصل تمامًا في هذه الأيّام، ولا سيّما بعدما أصبح في حُكم المؤكَّد أنّ أكثر ما أثار حفيظة هؤلاء المخطِّطين في الآونة الأخيرة، كان قد نجَم عن تطوُّريْن لافتيْن اثنيْن، أحدهما ارتكَز على نجاح مؤتمر الحوار الوطنيّ السوريّ الذي استضافته مدينة سوتشي الروسيّة الشهر الماضي، والآخَر ارتكَز على نجاح العمليّات النوعيّة التي قام بها الجيش السوريّ في محافظة إدلب خلال الشهر الحاليّ، وهما التطوُّران اللذان لا يختلف اثنان من المراقبين على أنّهما لا يصبّان في مصلحة الاستراتيجيّة الأميركيّة الموضوعة لسوريا بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
من هنا، وبالنظر إلى أنّ الآراء لا تزال متباينةً حول ما إذا كان سيُقدَّر للهدنة الإنسانيّة في الغوطة الشرقيّة أن تصمد على مدى خمسِ ساعاتٍ يوميًّا أم لا، تمامًا مثلما لا تزال متباينةً أيضًا حول ما إذا كان قرار مجلس الأمن الدوليّ بخصوص هدنة الثلاثين يومًا على كامل الأراضي السوريّة سيُوضَع حيِّز التنفيذ أم لا، فإنّ القطع ما بين الشكّ وما بين اليقين في مجال تحديد الوجهة النهائيّة لإبرة بوصلة الأزمة الراهنة سيبقى سابقًا لأوانه طالما أنّ المؤشِّرات المتوافرة لغاية هذه اللحظة لم تُظهِر أنّ الولايات المتّحدة تعتزم أخْذَ التحذيرات الروسيّة على محمل الجدّ، سواءٌ المعلَنة منها أم تلك التي لم تخرج إلى العلن بعد، وذلك على رغم أنّ الهدنة، وفقًا لأكثر القراءات المتاحة في الوقت الحاليّ رزانةً ورجاحةَ عقلٍ وبُعدَ نظرٍ، يمكن أن تشكِّل فرصةً نادرةً للأميركيّين، وربّما للأتراك أيضًا، لكي يحافظوا على ماء وجوههم عن طريق البدء بالخروج من المستنقع السوريّ بأقلّ الخسائر المتوقَّعة قبل فوات الأوان.. وحسبي أنّ تزامُن ارتفاع حدّة هذه التحذيرات مع رصدِ تحليقِ مقاتلاتٍ من طراز “سوخوي 57” في سماء سوريا، إنْ دلّ إلى شيء، فهو يدلّ إلى أنّه سيشكِّل في القريب العاجل المبتدأ والخبَر في جملةٍ روسيّةٍ مفيدةٍ تُكتَب للتوّ، برًّا وبحرًا وجوًّا، من أجل تسهيل عمليّة قراءتها في أوساط الآخَرين ممّن اعتادوا على القراءة بالأحرف المشفَّرة، وعلى ارتكاب الخطأ تلو الآخَر في مجال تحديد محلّ الأميركيّين من الإعراب.. والخير دائمًا في استحضار الجُمَل الروسيّة المفيدة من وراء القصد.
جمال دملج -خاص “لبنان 24”
from تحقيقات – ملفات – wakalanews.com http://ift.tt/2BUkHYF
via IFTTT
0 comments: