Tuesday, October 27, 2020

عندما ترسم أميركا بالأسود والأبيض

هشام ملحم

 

أراقب الانتخابات الأميركية منذ 48 سنة، وأغطيها باهتمام كبير وأحيانا بولع للقراء والمشاهدين الذين يتحدثون العربية منذ أكثر من 35 سنة. كنت أستمتع بشرح تعقيدات الموسم الانتخابي الطويل، من الانتخابات التمهيدية، إلى المناظرات الصاخبة، إلى المؤتمرات الحزبية الوطنية بطقوسها الفولكلورية وخطبها الرنانة، مع التركيز الدائم على ديمقراطيتها وشفافيتها لقراء ومشاهدين يعيشون بمعظمهم في دول غير ديمقراطية. ولكن هذه هي المرة الأولى التي أغطي فيها الانتخابات بقلب مثقل بالقلق وحتى الخوف على مستقبل الديمقراطية الأميركية.

لم يحدث أن رأيت من قبل مثل الاستقطابات السياسية والثقافية والأيديولوجية التي نراها اليوم. ولم أر منذ وصولي إلى الولايات المتحدة في 1972 سباقا إلى البيت الأبيض يتسم بالمواقف المطلقة للطرفين اللذين يقولان للناخب الأميركي إن عليه عمليا أن يختار بين الخير والشر، بين الضوء والظلام.

هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها المحللون والمؤرخون عن انتخابات يمكن أن تدفع المجتمع الأميركي المنقسم على نفسه إلى حافة الاقتتال. الحديث عن حرب أهلية، والذي نسمعه بين وقت وآخر غير مسؤول وغير دقيق لأسباب عديدة، ولكن ما هو صحيح وممكن هو احتمال حدوث أعمال عنف متفرقة يقوم بها أفراد أو جماعات صغيرة مماثلة لما حدث هذه السنة، أو ربما أكثر.

هذه هي المرة الأولى التي يشكك فيها رئيس أميركي مسبقا بنزاهة وشفافية العملية الانتخابية ويرفض مساعدة الولايات على حل أي مشاكل أو تعقيدات إدارية أو تقنية لضمان صدقية الانتخابات كما يفعل الرئيس دونالد ترامب. وهذه هي المرة الأولى التي يرفض فيها رئيس أميركي الالتزام مسبقا بقبول نتائج الانتخابات ومفهوم التبادل السلمي والديمقراطي للسلطة، كما يفعل الرئيس ترامب.

بعض التوترات الراهنة، وقسط كبير من السجال السياسي الراهن، ولجوء كل طرف، وخاصة الرئيس ترامب وأنصاره، إلى شيطنة الطرف الآخر، والتحذير من أن فوزه في الانتخابات يعني نهاية الديمقراطية في أميركا، كما يقول الكثيرون في معسكر المرشح الديمقراطي جوزف بايدن، أو انزلاق البلاد إلى الفوضى أو الحكم الاشتراكي كما يدعي ترامب وأنصاره، يذّكر بشكل عام، بالمناخ السياسي الداكن والخطير الذي ميّز خمسينيات القرن التاسع عشر، أي العقد الذي سبق الحرب الأهلية الأميركية. هذا قطعا لا يعني أننا مقبلون على حرب أهلية، ولكنه يعني وجود شرائح أو جماعات متطرفة، وبعضها مسّلح، تؤمن بطهارتها السياسية بطريقة مطلقة وترفض بالحدة ذاتها شرعية خصومها. وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات يقوم مرشح، في هذه الحالة الرئيس ترامب، بوصف منافسه بايدن بأنه “مجرم” يشرف على “مشروع إجرامي” عائلي.

السجال المطلق وشبه اللاهوتي بين ترامب وبايدن يدفع بأي مراقب إلى اليأس، باحتمال حدوث انتخابات خالية من الشغب. المرشح بايدن يرى أن ترامب أوصل البلاد “إلى مكان خطير”، وتساءل حول ما إذا كان رفض ترامب الالتزام المسبق بنتائج الانتخابات يمكن أن يزعزع المجتمع ويمكن أن يؤدي إلى العنف. من جهته يواصل ترامب تخويف الأميركيين من حكم الغوغاء في حال فوز بايدن بالانتخابات واستيلاء اليسار والاشتراكيين على السلطة ما يعني أنه “لن يكون هناك إنسان آمن”. هذه المواقف تفسر رفض أعداد هامة من الناخبين في المعسكرين الاعتراف بشرعية الرئيس المنتخب، إذا لم يكن مرشحهم.

الاستقطابات الراهنة صعبة وخطيرة بحد ذاتها، ولكن خطورتها ازدادت لأنها تأتي في سياق جائحة خطيرة لم تشهد مثلها البلاد منذ أكثر من قرن، وجلبت معها أزمة اقتصادية تاريخية، فاقمها أكثر انفجار الاحتجاجات الشعبية على العنصرية المنظمة التي تمارس في مدن مختلفة من قبل بعض رجال الشرطة ضد مواطنين من أصل أفريقي. الاحتجاجات التي عقبت قتل جورج فلويد ـ الذي خنقته ركبة شرطي أبيض قبل أشهر في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا ـ أشعلت الحرائق في عدد من المدن الأميركية، التي لم تشهد مثل هذه الحرائق والعنف الذي صاحبها منذ حرائق 1968 التي عقبت اغتيال زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ.

ما يجعل الخلافات السياسية الراهنة أكثر خطورة من السابق، هو شيوع نظريات المؤامرة في المجتمع الأميركي بشكل غير معهود، وهذا يعود لأسباب عديدة من بينها سهولة تسويق هذه النظريات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبسبب وجود رئيس أميركي يؤمن بها أو على الأقل يؤمن بفعالية تسويقها واستغلالها لتعبئة وتخويف قاعدته.

وجاء في استطلاع للرأي أن حوالي ثلث الحزب الجمهوري يؤمنون بنظرية المؤامرة التي يسوقها مؤيدو ما يسمى بجماعة QAnon المؤيدة لترامب والتي تدعي وجود نخبة معادية لترامب تسيطر على الدولة العميقة وتعمل على هزيمة الرئيس. هذه الجماعة تؤمن بأن الزمرة الحاكمة في البلاد مؤلفة من الذين يستغلون الأطفال جنسيا ومن عبدة الشيطان ويديرون شبكة عالمية للاتجار بالأطفال، وبأن الرئيس ترامب هو المنقذ الوحيد من خطر هذه المؤامرة.

ووفقا لنظرية المؤامرة هذه فإن المعلومات حول هذه الزمرة الحكومية الخطيرة تأتي من مسؤول أميركي بارز ينشر هذه المعلومات ويوقعها بحرف Q. وكان مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) قد حذّر من أن QAnon وغيرها من نظريات المؤامرة المماثلة لها “سوف تعزز من التوترات السياسية وأعمال العنف والإجرام”. ولا يزال الرئيس ترامب يرفض إدانة هذه الجماعة ونظرية المؤامرة التي يسوقونها، ويدعي أنه لا يعرف الكثير عنها باستثناء عدائها للاستغلال الجنسي للأطفال. وفي السابق اكتفى بالقول بأن الجماعة تؤيده، وهذا أمر يرحب به.

بعد حوالي 4 سنوات من تشكيك الرئيس ترامب وأنصاره بالصحافة الحرة، وبالعلوم، (ترامب وصف الأخصائيين بمكافحة الأوبئة مثل جائحة كورونا ” بالأغبياء “) والحقائق، وبنزاهة المؤسسات والقضاء واستغلال ونشر نظريات المؤامرة، دفعت بالعديد من المواطنين الأميركيين إلى التساؤل حول ما هو صحيح، وما هو موثوق، وكيف يمكن التحقق من الحقائق؟

هذا هو المشهد الأميركي الراهن قبل ثمانية أيام من أهم انتخابات رئاسية منذ أكثر من نصف قرن، وهذا ما يحدث حين تصر قوى سياسية متطرفة على أن تحوّر الحقائق وترسم لنفسها وللعالم صورة نافرة للبلاد وكأنها تقول: هذه هي أميركا بالأسود والأبيض.

المصدر: الحرة 



from وكالة نيوز https://ift.tt/3msi44t
via IFTTT

Related Posts:

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل