

“إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية” عنوان كتاب أصدره الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان باللغة الإنكليزية عام 2018 في الولايات المتحدة، لوحظ أن وسائل الاعلام الإسرائيلية تجاهلته إلى حد كبير، لما يتضمنه من سردية لتاريخ الكيان الاسرائيلي الاجرامي منذ مرحلة الاعداد لنشوئه حتى تاريخ صدور الكتاب.
يشرح الكاتب رونين بيرغمان في مقدمة الكتاب أنه في مرحلة البحث عن الوثائق السرية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي مرّ عليها خمسون عاماً، راوغت هذه الأجهزة ومنعته من الوصول إليها، وعندما لجأ إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، فإن هذه الأخيرة، وبضغط مخابراتي، رفعت فترة الحجر على الوثائق إلى سبعين عاماً عبر تعديل قانوني أظهر بشكل فاضح تسخير القضاء لمصلحة قرارات أجهزة الإستخبارات.
يقول الكاتب “لقد ذهبت كل الجهود التي بذلتها لإقناع المؤسسة العسكرية بالتعاون مع الأبحاث التي أجريها هباءً منثوراً، وواجهت كل الطلبات التي تقدمت بها لأجهزة الإستخبارات لتنفيذ القانون الذي يتيح فتح أرشيفها أمام الوثائق التي تجاوز عمرها الخمسين عاماً، آذاناً صماء، وعند اللجوء إلى المحكمة العليا للمطالبة بتنفيذ القانون، جرت المماطلة لسنوات وإنتهت إلى لا شيء سوى تعديل القانون نفسه عبر تمديد فترة الحجر على الوثائق سبعين عاماً، أي أكثر من عمر الدولة نفسها”.
ومع صدور التعديل على القانون، لم تقف المؤسسة العسكرية مكتوفة الأيدي، يضيف الكاتب، بل إنها، وفي العام 2010، وحتى قبل توقيع عقد كتابة الكتاب، عقدت وحدة العمليات في “الموساد” اجتماعاً خاصاً لمناقشة كيفية عرقلة أبحاث بيرغمان، وأرسلت تعميماً إلى كل موظفي “الموساد” السابقين تنذرهم فيه بعدم إجراء اية مقابلات مع الكاتب، لا بل جرى استدعاء بعض الموظفين الذين كان مشكوكاً بأمر إلتزامهم بالتعليمات، وتم التشديد عليهم بضرورة تنفيذ التعليمات. وتوجه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عام 2011 إلى قيادة جهاز الامن الداخلي “الشين بيت” بإتخاذ إجراءات زاجرة بحق مؤلف الكتاب “بزعم أن بحوزته وثائق سرية تشكل تهديداً إستخباراتياً”، ومنذ ذلك الحين، قام العديد من الأجهزة بإتخاذ خطوات عدة لوقف نشر الكتاب أو على الأقل وقف نشر أجزاء منه، يقول الكاتب.
إخفاء هويات المصادر
جرت العادة أن تطلب الرقابة العسكرية من وسائل الإعلام أن تضيف شبه جملة “وفقاً لوسائل نشر أجنبية”، عندما تريد أن تذكر أعمالا سرية منسوبة إلى الإستخبارات الإسرائيلية، وبالتحديد عمليات الاغتيال، بهدف إضعاف مصداقية مصادر المعلومة، وعدم إقرار أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية بمسؤوليتها عن تلك الاعمال السرية. ووفقاً لهذه القاعدة فإن هذا الكتاب يجب أن يعتبر “وفقا لوسائل نشر أجنبية” ويعفي الأجهزة الإستخباراتية من أية مسؤولية.
على أي حال، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تقر بأي من ألف مقابلة شكّلت الاساس الذي بُني عليه محتوى الكتاب، مع مروحة واسعة من المصادر التي تراوحت بين قادة سياسيين أو مسؤولين في وكالات الإستخبارات أو حتى مع منفذي العمليات أنفسهم. ومع ذلك، فإن معظم المصادر المذكورة في الكتاب معروفة بالاسماء الحقيقية، فيما خشيت مصادر أخرى من كشف هوياتها ووافقت على ذكر الحرف الاول من أسمائها وأسماء عائلاتها.
وحتى يؤكد الكاتب على مصداقية ما يذكره في كتابه، يقول إنه بالاضافة إلى المقابلات المذكورة، “لجأت إلى الآلاف من الوثائق التي زودتني بها مصادري من دون أن تسمح الأجهزة الرسمية بنقلها من المؤسسات، وبطبيعة الحال، من دون أن تسمح بتسليمها لي”. ورداً على السؤال البديهي الذي قد يخطر ببال القارىء عن الاسباب التي دفعت تلك المصادر للكلام وتقديم الوثائق للنشر يقول الكاتب “كل واحد من هذه المصادر له هدفه الخاص وأحياناً عنده قصة غير معلنة، ومن الواضح هنا أن بعض الوثائق وعلى الاقل إثنين من المسؤولين الإستخباراتيين المحترفين في عمليات الخداع وإستخدام الاعلام، كانوا يحاولون إستخدامي لتمرير الجانب الذي يخدمهم. لكن وفي كل مقابلة ومع كل وثيقة إستلمتها، كنت أقاطع المعلومات مع أكثر من مصدر للتأكد من أنني لن أكون فريسة الخداع في ما أكتب”.
ويضيف الكاتب أنه من الأسباب الأخرى لإعطائه هذا العدد الكبير من المقابلات والوثائق “هو ذلك التناقض في المجتمع الإسرائيلي، فمن جهة كل ما له علاقة بالإستخبارات والامن القومي يصنف “سرياً للغاية” ومن جهة ثانية كل شخص يريد أن يتكلم عما فعله، وهي أفعال تعتبر في دول أخرى مدعاة للخجل، لكنها مدعاة للفخر عند الإسرائيليين، فهي برأيهم أعمال ضرورية لحماية الكيان الإسرائيلي نفسه. ومع ذلك، فقد نجحت “الموساد” بالحؤول بيني وبين بعض المصادر (في معظم الاحيان بعد أن أكون قد أجريت معهم مقابلات)”.
مائير داغان القاتل الأسطوري
يحاول بيرغمان من خلال هذا العرض إضفاء أكبر قدر من المصداقية على محتوى كتابه، فينطلق في سرده من أول لقاء في تاريخ الكيان الإسرائيلي يجريه قائد لـ”الموساد” مع الصحافيين. إنه مائير داغان، الذي يصفه الكاتب بـ”الجاسوس والقاتل المحترف الاسطوري”. مكان اللقاء كما يذكر رونين بيرغمان، هو مقر قيادة “الموساد” الحصين في أحد الاحياء في شمال تل أبيب، وزمانه كان في الثامن من كانون الثاني/يناير عام 2011. ويقول نقلاً عن داغان غير المحب للصحافة بشكل عام أنه يعتبر الصحافة “وحشاً لا يشبع” لذلك لا معنى لإقامة علاقات مع الصحافيين. ومع ذلك، “قبل ثلاثة أيام من هذا اللقاء، إستلمت وثلة من المراسلين دعوة سرية أثارت دهشتي، لأني وعلى مدى عقد من الزمن، لم أوفر “الموساد” من النقد في كتاباتي وبصورة خاصة لم أوفر داغان نفسه”.
لقد عمل “الموساد” كل ما يمكن من أجل إضفاء أقصى درجات الرهبة على اللقاء، فقد طُلب من الصحافيين ركن سياراتهم في موقف سيارات غير بعيد عن مقر قيادة “الموساد”، وأن يتركوا كل ما بحوزتهم في سياراتهم، باستثناء دفاتر الملاحظات والأقلام… “ومن هناك، جرى نقلنا في حافلة تمت تغطية نوافذها بستائر سوداء. مررنا خلال الرحلة بالعديد من البوابات واللوحات الالكترونية التي توضح ما هو المسموح به وما هو الممنوع داخل حرم المقر، ومن ثم مررنا تحت حواجز الكترونية تكشف على المعادن قبل أن ندخل إلى غرفة الاجتماع مع داغان حيث إنتظرناه بضع دقائق قبل أن يدخل”، يروي الكاتب.
“لم يكن داغان وحيداً عندما دخل الغرفة، بل رافقه الناطق باسم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس شعبة المراقبة الاعلامية العسكرية، وهذه كانت امرأة برتبة عميد. وللتوضيح فإن “الموساد” وحدة عسكرية تتبع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء، وبحسب القانون، فإن أي تقرير عن أي من أعمالها “يخضع مباشرة للرقابة الاعلامية العسكرية” يقول بيرغمان.
ويضيف الكاتب “ما قاله داغان فاجأ مرافقيْه اللذين كانا يعتقدان أنه دعا إلى هذا الاجتماع كنوع من حفل وداع قبيل تركه مهامه، لأن هذا الاجتماع كان قبل يوم واحد من تقاعده، ولكن مع بدء كلامه وإسترساله، كانت حدقات عيون مرافقيْه تتسع من الدهشة فيما هو يواصل الكلام غير آبه بهما. إذ قال “إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتصرف بعدم مسؤولية ولأسباب أنانية بحتة وهو يقود البلاد إلى كارثة”.
تصفية علماء نويين إيرانيين
يعود بيرغمان بالتاريخ ثماني سنوات قبل الاجتماع المذكور، فيقول إن رئيس الحكومة حينها أرييل شارون كان قد عين داغان رئيساً لـ”الموساد” حتى يكون مسؤولاً عن ضرب مشروع إيران في الحصول على السلاح النووي، وهو المشروع الذي كان يعتبره الرجلان تهديداً وجودياً لإسرائيل. ويرى الكاتب أن داغان إختار الطريقة الاصعب ولكن الاكثر تأثيراً لتنفيذ المهمة الموكلة اليه. فقد كان يعتقد أن تحديد العلماء النوويين وعلماء الصواريخ الايرانيين وتحديد أمكنة إقامتهم وحركتهم ومن ثم قتلهم هي الطريقة الأفعل لضرب المشروع النووي الايراني. وقد حدد جهاز “الموساد” خمسة عشر عالماً وتمكنت من تصفية ستة منهم بعمليات أحادية، من خلال إستهدافهم الواحد تلو الآخر، عندما يكونون في طريقهم الى عملهم، حيث يقوم سائق دراجة نارية بلصق عبوة ناسفة بسياراتهم قبل وقت قصير من التفجير. كما تم اغتيال قائد في الحرس الثوري الايراني كان مسؤولاً عن مشروع الصواريخ البالستية الايرانية بتفجير عبوة كبيرة في مكتبه حيث قتل مع سبعة عشر من رجاله.
يقول الكاتب إن هذه العمليات وأخرى مماثلة نفذها “الموساد”، والبعض منها بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الاميركية، كانت ناجحة للغاية، لكنها لم تكن كافية لرئيس الوزراء نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك، اللذين بدءا يشعران أن الحاجة لهما بدأت تتراجع، فقررا أن هذه العمليات لم تعد فعالة في تأخير المشروع النووي الايراني وأن القصف الجوي العنيف والواسع للمنشآت النووية الايرانية من شأنه منع إيران من حيازة سلاح نووي. هذا الامر عارضه داغان بشدة لأنه كان على قناعة بأن اللجوء إلى خيار الحرب المفتوحة يتم فقط عندما “يصبح حد السيف على الحنجرة” أو كخيار أخير لا بديل له.
وينقل الكاتب عن داغان قوله “إن الاغتيال له تأثير كبير على المعنويات كما له تأثير فعلي مادي مباشر، فلا أعتقد أنه كان هناك العديد من الاشخاص الذين كان بإمكانهم الحلول مكان نابوليون او روزفلت او ونستون تشرشل، فالعامل الفردي يلعب دورا أساسياً، واذا كان صحيحاً القول ليس من شخص لا يمكن إستبداله ولكن الفرق شاسع بين إستبدال شخص قوي وحيوي بشخص لا حياة في شخصيته”.
إقتل السائق
ووفق نظرية داغان، فإن الاغتيال هو بشكل أساسي أمر معنوي أفضل من خوض حرب كبيرة، فتصفية عدد من الشخصيات يكون كافياً لتفادي خيارات أخرى غير ضرورية وينقذ حياة عدد لا يحصى من الجنود والمدنيين على طرفي الصراع. ويضيف أن حرباً واسعة النطاق ضد ايران يمكن أن تؤدي إلى صراع واسع المدى في الشرق الاوسط وقد لا تتسبب بالضرر المطلوب للمشروع النووي الايراني. ويختم داغان أن شنّ إسرائيل الحرب على ايران سيشكل إدانة لكل مهنته وسيذكر التاريخ أنه لم ينفذ المهمة التي أوكلها اليه شارون لوضع حد لطموحات إيران النووية عبر العمليات السرية بدل خوض هجوم معلن. ولمزيد من شرح نظريته الداعمة للاغتيال بدل الحرب يقول داغان “في بعض الاحيان، يكون أكثر فعالية أن تقتل السائق، وهذا يكون كل شيء”.
يقول الكاتب إن معارضة داغان إلى جانب ضغوط كبيرة من كبار مسؤولي الإستخبارات دفعت إلى تأجيل الضربات الجوية على إيران عدة مرات. ولم يتورع داغان عن التوجه مباشرة إلى مدير وكالة الإستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) ليون بانيتا من دون إذن نتنياهو ليشرح خطة الاخير لضرب إيران ويحذر من عواقبها، ما أدى إلى قيام الرئيس الاميركي باراك أوباما بتوجيه تحذير شديد اللهجة لنتنياهو لوقف خطته. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة التوتر بين داغان ونتنياهو، لكن هذا التوتر إزدادت وتيرته مع عملية الاغتيال ضد احد قادة حركة “حماس” الذي كان في زيارة إلى دبي، وقد نفذت العملية مجموعة مؤلفة من 27 عنصراً من “الموساد”..
تغيير مجرى التاريخ
يقول رونين بيرغمان في كتابه ان عملية الاغتيال التي نفذتها مجموعة من “الموساد” ضد محمود المبحوح، احد قادة “حماس” في مدينة دبي الاماراتية، كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين رئيس “الموساد” مائير داغان ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فقد ارسل داغان فريقاً من 27 ضابطاً وعنصراً من القتلة المحترفين الى دبي لقتل مسؤول فلسطيني رفيع في حركة “حماس”، وقد نجح الفريق في تنفيذ مهمته عبر حقن المسؤول الفلسطيني بحقنة قاتلة في غرفته، في احد فنادق دبي، وغادر الفريق دولة الامارات قبل اكتشاف جثة المغدور، ولكن ما لم يكن بحسبان “الموساد” هي سلسلة الاخطاء الجوهرية التي ارتكبها اعضاء الفريق، والتي بدأت بتجاهل وجود عدد لا يحصى من كاميرات المراقبة المنتشرة ليس فقط في الفندق بل في كل شوارع هذه الامارة الخليجية ومؤسساتها، واستخدام جوازات السفر المزورة نفسها التي كان اعضاء الفريق قد استخدموها سابقاً عند دخولهم الى دبي خلال عملية الملاحقة والترصد واستخدام نفس مجموعة الهواتف التي لم يكن من الصعب على الشرطة الاماراتية متابعتها وفك “الداتا” الخاصة بها، وهكذا فقد ظهرت امام العالم كله مقاطع فيديو مأخوذة من كاميرات المراقبة تظهر وجوه اعضاء الفريق وكل حركاتهم قبل عملية الاغتيال وبعدها.
لقد بينت كل تلك الاخطاء ان عملية الاغتيال تحمل بشكل واضح بصمة “الموساد” وقد تسببت باضرار عملياتية جدية لهذا الجهاز الاستخباراتي، يقول بيرغمن، كما تسبب باحراج شديد لدولة اسرائيل التي إستخدمت جوازات سفر مزورة لدول غربية صديقة لها. وهكذا، فقد صرخ نتنياهو في وجه داغان، وهو يزبد قائلاً له: “لقد اخبرتني ان العملية ستكون سهلة وبسيطة وان نسبة الخطأ فيها قريبة جداً من الصفر”. على الفور، اصدر امره لداغان بوقف كل عمليات الاغتيال التي كان مخططاً ان تتم ولكل عمليات “الموساد” في الخارج حتى اشعار آخر. هكذا، تصاعدت حدة الخلافات بين نتنياهو وداغان الى ان قرر نتنياهو (بحسب روايته هو) ان لا يمدد ولاية داغان لرئاسة “الموساد” او بحسب رواية داغان “لقد سئمت منه وقررت ان اتقاعد”.
القتل الهادف
وفي عودة الى الملف النووي الايراني، ينقل بيرغمن عن داغان قوله خلال لقائه الاول مع الصحافيين في مقر “الموساد”، وفي مقابلات اخرى اجراها معه في اطار ابحاثه المسبقة لاعداد الكتاب انه كان بمقدور “الموساد” تحت قيادته وقف ايران عن حيازة اسلحة نووية عبر عمليات الاغتيال وضربات موضعية اخرى، وقد اعرب عن ثقة قوية بان العمل مع الولايات المتحدة يمنع ايران من استيراد بعض القطع الحيوية لمشروعها النووي بسبب عدم قدرتها على تصنيعها..
يسترسل بيرغمن في كتابه بالقول “انه من بين كل الوسائل التي تستخدمها الديمقراطيات في العالم لحماية امنها، لا شيء اكثر اثارة للجدل من عمليات قتل السائق، الاغتيال”. البعض يسميها “تصفية” ووكالات الاستخبارات الامريكية تسميها، ولاسباب قانونية، “عمليات القتل الهادفة”، وفي كل الاحوال، فان كل التعابير تنتهي الى معنى واحد وهو قتل فرد ما (نظرية قتل السائق)، وذلك من اجل تحقيق هدف محدد ألا وهو انقاذ حيوات اناس ينوي المستهدف ان يقتلهم وازالة الخطر الذي يشكله هذا الهدف، واحيانا يكون الهدف من قتل قائد ما هو تغيير مجرى التاريخ، يضيف الكاتب.
ويرى بيرغمن ان استخدام دولة ما للاغتيال يثير معضلتين، الاولى، تتمثل في السؤال الآتي: هل عملية الاغتيال فعالة؟ اي هل ان تصفية فرد ما او مجموعة افراد ستجعل العالم اكثر اماناً؟ الثانية، تتمثل في السؤال هل عملية الاغتيال مبررة اخلاقياً وقانونياً؟ وهل ان قيام بلد ما باستخدام اسوأ انواع الجرائم وفق اي قانون او اخلاق (حرمان انسان او مجموعة بشر من حياتهم) من اجل حماية مواطنيها؟ يسأل الكاتب.
يترك بيرغمن الاجابة عن هذه الاسئلة للقارىء، قبل أن يمضي في شرح مضمون كتابه بالقول “ان هذا الكتاب يتعامل بصورة رئيسية مع عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي نفذها جهاز “الموساد” والاذرع الاخرى للحكومة الاسرائيلية في حالتي السلم والحرب، كما يتعامل في فصوله الاولى مع مثل هذه العمليات التي نفذتها منظمات وميليشيات سرية قبل نشوء دولة اسرائيل والتي صارت بعد العام 1948 الجيش الرسمي لهذه الدولة واجهزة الاستخبارات الرسمية لها.
800 عملية إغتيال
ويخلص بيرغمن من خلال مضمون الوثائق التي حصل عليها والمقابلات التي أجراها إلى انه منذ الحرب العالمية الثانية كانت اسرائيل من بين الدول الغربية الاكثر تنفيذا لعمليات اغتيال، ويضيف، في عدد لا يحصى من المناسبات، فان قادة اسرائيل قرروا انه من بين كل الخيارات المتاحة، فان ما هو افضل للدفاع عن امن بلادهم القومي هو تنفيذ عمليات اغتيال وتفجيرات موضعية. وبرأيهم ان هذه العمليات تحل المشاكل التي تعاني منها الحكومة واحياناً تغير مجرى التاريخ”.
يشير بيرغمن إلى أن قيام جهاز “الموساد” واجهزة استخبارات اسرائيلية اخرى بعمليات اغتيال لاشخاص مصنفين كتهديد مباشر للامن القومي “قد ارسل رسالة اكبر من عملية الاغتيال نفسها ومفادها اذا كنت عدوا لاسرائيل فاننا سنجدك ونقتلك اينما كنت”
يعرض بيرغمن أنه حتى كتابة هذا الكتاب (الذي نشر في الولايات المتحدة باللغة الإنكليزية في العام 2018)، نفذت اسرائيل 800 عملية قتل هادف تقريبا، كلها كانت من ضمن حربها ضد “حماس” في قطاع غزة، في اعوام 2008 و2012 و2014 او في اطار عمليات “الموساد” في الشرق الاوسط ضد اهداف فلسطينية وسورية وايرانية (أغلبها بالمسيرات). وللمقارنة هنا، فان الولايات المتحدة الامريكية نفذت في عهد الرئيس جورج دبليو بوش 48 عملية إغتيال وفي عهد الرئيس باراك اوباما نفذت 353 عملية مشابهة.
ويضيف بيرغمن “لا شيء اروع مما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات الامريكية (سي آي أيه) ووكالة الامن القومي الامريكية (ان اس ايه) الجنرال مايكل هايدن في استخدام سلاح الاغتيال القائم على الاستخبارات، لانه هو ما جعل حرب اسرائيل على الارهاب اكثر فعالية من اي حرب مشابهة خاضتها اية دولة غربية على الاطلاق، ففي عدد كبير من المناسبات، كان القتل الهادف هو ما انقد اسرائيل من أزمات عميقة”.
الضوء الأخضر
ويقول بيرغمن انه “ليس كل عمليات الاغتيال نفذتها مجموعات صغيرة ومغلقة، لانه كلما كانت العملية معقدة كلما كان عدد المشاركين فيها اكبر وقد يصل الى المئات، ومعظمهم اعمارهم دون 25 سنة، وفي بعض الاحيان، كان هؤلاء الشباب يأتون مع قادتهم قبل التوجه لتنفيذ عمليتهم للقاء رئيس الوزراء (وهو الشخص الوحيد المخول باعطاء الضوء الاخضر لعمليات الاغتيال) حيث يشرح لهم العملية ويعطيهم الموافقة النهائية الشفهية، وهذا امر فريد من نوعه في العالم، وبعض الضباط من الرتب الصغيرة الذين شاركوا في مثل هذه اللقاءات ارتقوا ليصبحوا قادة وطنيين وحتى رؤساء حكومات، لذلك اسأل ما هي العلامات التي طبعت في ذاكرة هؤلاء عن عمليات الاغتيال والقتل الهادف التي شاركوا فيها”؟
ويشير الكاتب إلى ان الولايات المتحدة اخذت من اسرائيل تقنيات الاغتيال كنموذج بعد احداث 11 ايلول/سبتمبر 2011 وتنفيذا لقرار الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش لشن حملة قتل هادفة ضد تنظيم “القاعدة” استخدمت اجهزة الاستخبارات الامريكية تقنيات وطرق الحرب على الارهاب التي ابتكرتها اسرائيل ومن ضمنها نظام السيطرة والقيادة، غرف العمليات، طرق جمع المعلومات وتقنيات المسيرات الطائرة والطائرات من دون طيار.
ويختم بيرغمن مقدمة كتابه بالقول عندما تستخدم الولايات المتحدة ضد اعدائها اليوم نفس نوع القتل الخارج عن القانون الذي دأبت اسرائيل على استخدامه لعقود خلت، من المناسب ليس فقط ابداء الاعجاب بالقدرات العملياتية التي انجزتها اسرائيل بل ايضا دراسة السعر الاخلاقي العالي الذي دفع ولا يزال يدفع لاستخدام هكذا نوع من القوة.
نافورة دماء من رأس ويلكين
ينطلق رونين بيرغمان في سرده من تأسيس بريطانيا لاول لواء عسكري من يهود العالم لمساعدتها في الحرب العالمية الثانية، تحوّل عناصره وضباطه لاحقاً حتى يكونوا نواة المنظمات الصهيونية الارهابية التي لاحقت الضباط النازيين وقامت بتصفيتهم في جميع أرجاء أوروبا والعالم، وخلال عملياتها هذه ـ يقول الكاتب ـ إن العشرات من الأبرياء قتلوا، إما للشبهة وإما كأضرار جانبية لعمليات الإغتيال.
يعود بيرغمان بالتاريخ إلى العام 1896، عندما نشر الصحافي اليهودي النمساوي تيودور هيرتزل كتابه “الدولة اليهودية”، فيقول إن الاخير ناقش معاداة السامية التي كانت معشعشة في عمق الثقافة الاوروبية وأن “الشعب اليهودي يمكنه تحقيق الحرية الحقيقية والأمان فقط في دولته الخاصة”. ولكن معظم أبناء النخبة اليهودية في أوروبا الغربية والتي كانت تعيش حياة مريحة، رفضت فكرة هيرتزل، يقول بيرغمان، لكن جمهور الفقراء والعمال اليهود في أوروبا الشرقية، رحبوا بهذه الأفكار وتبنوها على نطاق واسع، كونهم كانوا يعانون من قمع دموي جعل الكثيرين منهم ينضمون إلى مجموعات وإنتفاضات يسارية في البلدان التي كانوا يعيشون فيها، على حد قول الكاتب.
ويقول بيرغمان إن هيرتزل نفسه رأى في فلسطين، أرض أجداد اليهود، المكان المثالي لإقامة الدولة اليهودية في المستقبل، لكنه كان يعتقد أن أي إستيطان في تلك الأرض، يجب أن يتم بهدوء وروية وعبر القنوات الدبلوماسية وبدعم دولي، كي تتمكن هذه الدولة من العيش بسلام. وبذلك يكون هيرتزل قد أسّس ما عُرف لاحقاً بنظرية “الصهيونية السياسية”.
اللواء اليهودي
خلال الحرب العالمية الثانية، تطوع نحو 38 ألفاً من يهود فلسطين لمساعدة الجيش البريطاني والخدمة في صفوفه، ولم يعرف البريطانيون في البداية ماذا يفعلون بهذه الأعداد من المتطوعين، فنظموهم في إطار ما أسموه “اللواء اليهودي”، وارسلوهم للتدريب في إحدى القواعد العسكرية البريطانية في مصر، ومن ثم عادوا وأرسلوهم إلى أوروبا للقتال إلى جانب قوات الحلفاء، وبصورة أساسية في كل من إيطاليا والنمسا، فرأى ضباط وجنود هذا اللواء بأم العين رعب “الهولوكوست”، وأرسلوا تقارير إلى القيادات اليهودية في فلسطين، ومن بين هؤلاء الجنود، كان موردخاي غيشون، وهو من مواليد برلين عام 1922 لأب روسي وأم يهودية ألمانية كان أخوها الحاخام ليو بايخ زعيم حزب “اليهود الألمان الأحرار”، وهو حزب إصلاحي، وكان على غيشون أداء التحية النازية وإنشاد النشيد النازي في المدرسة الألمانية التي كان يتعلم فيها قبل الهجرة مع عائلته إلى فلسطين في العام 1933، لكنه عاد إلى أوروبا في إطار “اللواء اليهودي”، ليجد أن المجتمع اليهودي قد دُمّر بالكامل على أيدي النازيين، وينقل بيرغمان عن غيشون قوله “لقد آن الاوان للإنتقام، لقد كنت أحلم بأن أحد أشكال الانتقام تتضمن قتل صديق ألماني عزيز عليّ جداً يدعى ديتليف، فقط لأن والده كان ضابطاً في الشرطة الألمانية، بهذه الطريقة فقط نستطيع إستعادة الكرامة اليهودية المهدورة”. موردخاي الذي يحمل كل هذا الحقد والكراهية، أصبح لاحقاً أحد مؤسسي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
يقفز بيرغمان في سرده التاريخي من الأقدم إلى الأحدث وبالعكس، فيروي بطريقة لا تخلو من التشويق، وقائع عملية إغتيال رئيس مكتب التحقيق الجنائي البريطاني في فلسطين توم ويلكين في 24 أيلول/سبتمبر عام 1944 على أيدي نشطاء من منظمة “ليهي” (“المحاربون من أجل حرية إسرائيل”) الصهيونية السرية التي كانت تحارب الإنتداب البريطاني في فلسطين في أوائل أربعينيات القرن العشرين، والتي كانت تعتبرها سلطات الإنتداب منظمة إرهابية، وتطلق عليها تسمية “عصابة شتيرن”، تيمناً باسم مؤسسها القومي المتطرف ابراهام شتيرن، وقد كان قائد هذه المنظمة الارهابية اسحاق شامير (الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء “دولة اسرائيل”)، ويقول شامير نفسه إن المنظمة نفّذت الكثير من عمليات الإغتيال والقتل المتعمد والتفجير في إطار حملة “الإرهاب الشخصي”.
مكتب التحقيق و”ليهي”
ويبرر بيرغمان قرار إغتيال توم ويلكين بالقول إن الاخير كان رئيس الوحدة اليهودية في مكتب التحقيق الجنائي في فلسطين (سي اي دي)، وكان يقوم بعمله بصورة ممتازة، لا سيما في خرق المنظمات الصهيونية السرية بعملائه وتمكنهم من وقف الكثير من انشطتها وعملياتها، وكان بعد 13 عاماً من الخدمة في فلسطين، يتكلم العبرية بطلاقة وباتت لديه شبكة واسعة من المخبرين الذين بفضلهم تمكن ويلكين من اعتقال العديد من النشطاء السريين ومصادرة كميات كبيرة من الاسلحة، ناهيك بإحباطه الكثير من العمليات التي كانت تهدف إلى إكراه البريطانيين على مغادرة فلسطين.
يقول بيرغمان إن ويلكين كان يعرف أن منظمة “ليهي” الارهابية تستهدفه لأنها حاولت عام 1942 إغتياله مع رئيسه البريطاني جيفري مورتون في أوائل عمليات الإغتيال التي نفذتها، ففي 20 كانون الثاني/يناير من ذلك العام، زرع أعضاء المنظمة عبوات ناسفة على سطح أحد الطوابق داخل مبنى يقع في شارع يائيل ثمانية في تل أبيب، ولكن إنفجار العبوات أدى الى مقتل ثلاثة رجال شرطة، إثنان منهم يهود والثالث إنكليزي. وغادر مورتون فلسطين بعد محاولة إغتيال أخرى أدت الى إصابته بجروح اثر مقتل مؤسس “ليهي” ابراهام شتيرن في صدام مسلح مع الـ”سي اي دي”.
في تلك الليلة، كمن ديفيد شومرون ورفيقه ياكوف باناي (اسمه الحركي “مازال” اي “الحظ”) لتوم ويلكين قرب أحد مقرات الـ”سي اي دي” في شارع السان جورج في القدس، غير آبهين بأن للمستهدف عائلة وأقارب، بل كل ما يعنيهم، أنه يشكّل هدفاً ذات قيمة فقط، بحسب قول شومرون نفسه بعد عقود من تلك العملية. قرار الإغتيال أصدره رئيس المنظمة اسحاق شامير نفسه. في تلك الليلة، تزود شومرون وباناي بمسدسات وقنابل يدوية فيما كانت مجموعة الدعم تننتشر في المكان، متنكرة ببدلات رسمية وقبعات على النسق الأنكليزي. عندما خرج ويلكين من مقر إقامته، متجهاً سيراً على الأقدام الى مباني الـ”سي اي دي”، حيث كانت تجري التحقيقات مع عناصر المنظمات الارهابية الصهيونية، وما ان مرّ من زاوية تقاطع شارعي السان جورج وميا شيريم، حتى نهض فتى في محل بقالة على مقربة من الزاوية ورمى قبعته بالأرض، هذه كانت الإشارة للبدء بتنفيذ العملية، مر شومرون وباناي من أمام ويلكين وتأكدا من انه الهدف المحدد فعلاً (عرفاه من خلال صور اعطيت لهم مسبقاً)، وتجادلا من يطلق النار أولاً حيث “ان باناي كان يريد ان يفعل ذلك ولكن ما ان استدرنا معاً نحوه لم أتمالك نفسي وأطلقت النار أولاً”، يقول شومرون ويضيف، “من بين 14 طلقة أطلقناها، أصيب ويلكين بـ11 طلقة علما أنه بعد الطلقات الأولى، تمكن من سحب مسدسه، ليرد علينا لكنه تهاوى ووقع ووجهه الى الارض ونافورة دماء تنبع من رأسه”.
اسحق بنزافي
وعلى الفور، غادر شومرون وباناي نحو ظلال الأبنية، حيث كانت في إنتظارهم سيارة تاكسي يقودها أحد أعضاء منظمة “ليهي”. يقول شومرون عن العملية “إن الشيء الوحيد الذي أسفت عليه هو أني لم آخذ حقيبة يد ويلكين التي كانت بالتأكيد تحوي الكثير من الوثائق، باستثناء ذلك، لم يتمالكني أي شعور ولو ضئيل بالذنب، لأننا كنا نؤمن أنه كلما زاد عدد التوابيت التي تعود الى لندن كلما اقترب موعد يوم الحرية”.
يقول بيرغمان ان استراتيجية استخدام القوة كطريق وحيد لاعادة الشعب اليهودي الى “ارض اسرائيل” لم تكن صنيعة منظمة “ليهي” ولم يخترعها شتيرن بل تعود جذورها إلى ثمانية رجال إجتمعوا في شقة عبارة عن غرفة واحدة تطل على حقل برتقال في مدينة يافا في 29 أيلول/سبتمبر 1907، أي بالتحديد قبل سبعة وثلاثين عاماً من نافورة الدماء التي إنطلقت من رأس ويلكين. حينذاك، كانت فلسطين لا تزال جزءاً من الأمبراطورية العثمانية، وكان قد استأجر تلك الغرفة مهاجر روسي يدعى اسحق بنزافي جاء الى فلسطين شأنه شأن باقي زملائه السبعة الآخرين في الغرفة الذين كانوا قد غادروا هم ايضا الأمبراطورية الروسية، وكانوا جميعاً صهاينة ملتزمين تبنوا فكرة “الصهيونية السياسية” لهيرتزل وزادوا عليها “بدلاً من إنتظار أن يعطينا العالم وطناً يجب أن نعمل على بناء وطننا بأنفسنا عبر العودة الى فلسطين والعمل في الأرض وجعل الصحراء تزهر وذلك كحق تاريخي لنا والدفاع عن هذا الحق بكل قوة”.
ويضيف بيرغمان أن هذه الإستراتيجية وضعت الصهاينة الملتزمين في مواجهة مباشرة مع معظم اليهود الذين كانوا أساساً يعيشون في فلسطين كأقلية صغيرة في الأرض العربية، وكانوا بمعظمهم يعملون كباعة متجولين أو طلبة مدارس دينية أو موظفين في الإدارة العثمانية، وكان هؤلاء قانعين بما هم عليه من حياة عبر التذلل والرشوة والتسويات التي كانت تعطيهم نسبة عالية من السلام والأمن في حياتهم.
ويتابع الكاتب، لم ترق تلك الحياة لبنزافي وللقادمين الجدد لأنهم وجدوا أن الكثير من اليهود كانوا يعيشون في العوز، ولا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، وبطبيعة الحال كانوا تحت رحمة الغالبية العربية ومزاجية المسؤولين العثمانيين الفاسدين، وما وجده بنزافي وصحبه أسوأ الأمور، هو إعتماد اليهود على حراس عرب لحماية مستوطناتهم، وهؤلاء كانوا بدورهم يتواطأون مع مجموعات عربية لمهاجمة المستوطنات. وقد اعتبر بنزافي وصحبه أن هذا الأمر غير مقبول ولا يحتمل، وقد كان بعض صحبه أعضاء في حركات ثورية يسارية روسية قبل القدوم الى فلسطين. إحدى هذه الحركات كانت “نارودنيا فوليا” أي “ارادة الشعب”، وهي منظمة سرية متطرفة ضد القيصر في روسيا وتعتمد تكتيكات الإرهاب ومن ضمنها الإغتيال. وقد أدى فشل الثورة في روسيا عام 1905 إلى إحباط العديد من الثوريين والديمقراطيين الإشتراكيين والليبراليين، ما جعلهم ينزحون الى فلسطين لـ”إعادة” بناء الدولة اليهودية.
بنزافي وصحبه السبعة القادمين من روسيا القيصرية، كانوا فقراء للغاية بالكاد يحصلون على قوت يومهم عبر العمل المضني في الحقول وبساتين الليمون، وغالباً ما يناموا جائعين، ولكنهم كانوا فخورين بكونهم صهاينة، وكانوا يؤمنون أنه لبناء دولتهم يجب أن يبدأوا بالدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وهكذا فقد سار هؤلاء إفرادياً أو كل اثنين معاً، ليلاً في شوارع يافا، وتوجهوا الى تلك الغرفة في 29 أيلول/سبتمبر 1907 لتأسيس أول مجموعة يهودية محاربة في التاريخ الحديث، وتعاهدوا في ما بينهم أنه “لن يبقى اليهودي في صورة الضعيف والمضطهد في أي مكان في العالم، ووحدهم اليهود سيدافعون عن اليهود”. وأطلقوا على مجموعتهم إسم “بار غيورا” تيمناً باسم قائد ثورة اليهود ضد الامبراطورية الرومانية في القرن الأول بعد الميلاد وتبنوا شعار “بالنار والدم سقطت يهودا وبالنار والدم ستنهض يهودا”.
ويختم رونين بيرغمان هذا الفصل بالقول “صحيح أن يهودا ستنهض وسيصبح بنزافي يوماً ما الرئيس الثاني لدولة إسرائيل، ولكن قبل ذلك، سيكون هناك الكثير من النيران والكثير من الدماء”.
ماذا فعلت “الهاغاناه” بالإنكليز
يقول رونين بيرغمان ان منظمة “بار غيورا” كانت في بدايتها حركة شعبية، ولكن مع مجيء المزيد من المهاجرين اليهود الى فلسطين من روسيا واوروبا الشرقية (بمعدل 35 الف مهاجر سنويا بين العامين 1905 و1914) حاملين معهم الفلسفة الصهيونية نفسها اخذت المنظمة تعيد تركيب تنظيمها لتصبح منظمة اكثر عسكرة تحت اسم “الحرس” او “هاشومير” باللغة العبرية. وبدءا من العام 1912 كانت تتولى المنظمة حراسة 14 مستوطنة يهودية واخذت تطور قدراتها لتصبح هجومية اكثر منها دفاعية وذلك في اطار ما كانت تعتبره الحركة الصهيونية حربا لا بد واقعة من اجل السيطرة على كل فلسطين، وبالتالي، رأت “هاشومير” نفسها النواة التي سيبنى عليها لاحقا الجيش اليهودي وكل وكالات استخباراته.
راح عناصر “هاشومير” يغيرون على القرى والبلدات الفلسطينية لـ”معاقبة” المواطنين الذين تسببوا بالاذى لليهود، وذلك اما بضربهم او باعدامهم، ولم تتورع المنظمة عن استخدام قوتها ضد يهود تشتبه بتعاونهم مع العثمانيين. وفي العام 1920 طورت “هاشومير” نفسها شكلا ومضمونا لتصبح تحت اسم قوات الدفاع اي “الهاغاناه” باللغة العبرية.
وقبل مضيه قدما في سرده التاريخي، يورد بيرغمان نبذة عن حياة ديفيد بن غورين قائلا انه ولد عام 1886 في بولندا تحت اسم ديفيد يوسف، وبدأ في سن مبكرة يسير على خطى والده كناشط صهيوني وهاجر الى فلسطين عام 1906 حيث انه بفضل الكاريزما التي كان يتمتع بها، وعلى الرغم من صغر سنه، اصبح احد ابرز قادة المجتمع اليهودي، عندها، غيّر اسمه ليصبح ديفيد بن غوريون تيمناً باحد قادة الثورة اليهودية على الامبراطورية الرومانية.
“الهاغاناه”.. وأولادها
ويقول بيرغمان ان “الهاغاناه” تأثرت كثيرا بالروح العدوانية التي كانت تتمتع بها منظمة “هاشومير”، ولم تتورع عن قتل يهود معارضين لها. ففي 30 حزيران/يونيو 1924 قتل اعضاء من “الهاغاناه” في احد شوارع يافا يعقوب دي هان، اليهودي الحريديمي (يهود متطرفون)، وقد اعتبرت “الهاغاناه” ان دي هان معاد للصهيونية، وجاءت عملية اغتياله عشية سفره المقرر الى بريطانيا لثنيها عن وعدها لليهود بدولة لهم في فلسطين (وعد بلفور). وقد صدر قرار اغتيال يعقوب دي هان عن اسحاق بنزافي الذي اصبح احد ابرز قادة “الهاغاناه”.
لم يرض بن غوريون عن عملية الاغتيال هذه، واعتبر ان هكذا عمليات تبعد الدعم البريطاني لدولة اليهود. وينقل بيرغمان شهادة لقائد “الهاغاناه” ايزرائيل جاليلي يقول فيها إن بن غوريون رفض في اكثر من مناسبة اعطاء الموافقة على اغتيال شخصيات عربية مثل القائد الفلسطيني الحاج امين الحسيني واعضاء اخرين في اللجنة العربية العليا، كما رفض قتل بريطانيين بينهم مسؤول رفيع في سلطات الانتداب البريطاني كان يضع العراقيل امام مشاريع الاستيطان اليهودي.
لم ترق مواقف بن غوريون للعديد من قادة واعضاء “الهاغاناه”، ومن ضمنهم ابراهام تيهومي الذي نفذ عملية اغتيال يعقوب دي هان، فانشق هو وعدد من قادة واعضاء “الهاغاناه” عن المنظمة في العام 1931، واسّسوا منظمة “ايرغون زفاي ليومي”، اي “المنظمة العسكرية الوطنية” التي اعتمدت اختصارا لاسمها كلمة “ايتزال”، أما الانكليز، فقد أسموها “ايزل” او “ايرغون”. تولى قيادة هذه المنظمة اليمينية المتطرفة في اربعينيات القرن الماضي مناحيم بيغن الذي اصبح في العام 1977 رئيسا للوزراء.
يقول بيرغمان ان بن غوريون كان لا يزال على موقفه الرافض للاغتيال والقتل المتعمد إنتقاماً لضحايا “المحرقة”، وصرح اكثر من مرة “ان الانتقام الآن لا قيمة له، فهو لن يعيد الحياة للملايين الذين قتلوا”. لكن العديد من قادة “الهاغاناه” كانوا يعتبرون الاغتيال والقتل المتعمد تحقيقاً للعدالة التاريخية وردعاً لاية عمليات قتل لليهود في المستقبل، وخطط هؤلاء لعمليات انتقامية ضد النازيين ومن تحالف معهم.
الأرشيف النازي
بعد الحرب العالمية الثانية، تأسست داخل “اللواء اليهودي”، الذي كان الانكليز قد اسّسوه خلال الحرب، وحدة سرية بأمر من القيادة العليا في “الهاغاناه” ومن دون علم السلطات الانكليزية، واسميت “غمول” اي “التعويض”، ومهمتها الانتقام من رجال المخابرات النازية الالمانية “اس. اس” الذين شاركوا بأنفسهم في عمليات قتل اليهود.
وينقل بيرغمان عن موردخاي غيشون قوله بعدما كُسر جدار الصمت في الحديث عن تلك المرحلة “بحثنا عن السمكة الكبيرة، كبار المسؤولين النازيين الذين خلعوا بزاتهم العسكرية وعادوا لمنازلهم”.
عمل عملاء “غمول” بسرية تامة في اطار عملهم داخل “اللواء اليهودي”، حتى غيشون نفسه حمل خلال مطاردة النازيين هويتين مختلفتين، واحدة كمواطن الماني واخرى كضابط انكليزي برتبة رائد. وبصفته مواطناً المانياً، تمكن غيشون من انقاذ الارشيف النازي في مدن ترافيزيو وفيللاخ وكلاغنفورت بعد ان اشعل النازيون النار فيه، ولكن غيشون وصل اليه قبل ان تلتهم النيران كل شيء فيه وحصل على معلومات مهمة منه. وبصفته ضابطاً انكليزياً، حصل غيشون على معلومات كثيرة من الشيوعيين اليوغوسلاف ومن ضباط مخابرات يهود امريكيين.
استخدم عملاء “غمول” أيضاً عمليات الابتزاز والاكراه للحصول على المعلومات، ففي حزيران/يونيو 1945، وجد هؤلاء العملاء في ترافيزيو زوجين المانيين من اصول بولندية، كانت الزوجة تعمل على نقل ممتلكات مسروقة من اليهود من النمسا الى ايطاليا والمانيا في ما كان زوجها مساهماً في ادارة مكتب اقليمي لـ”الغستابو”. فعرض الضباط اليهود عليهما التعاون او الموت. هنا ينقل بيرغمان عن يسرائيل كارمي (رئيس الشرطة العسكرية الاسرائيلية بعد قيام دولة “اسرائيل”) قوله “لقد كلفت الزوج بإعداد لائحة تضم كبار المسؤولين النازيين الذين عرفهم وكانوا من “الغستابو” وجهاز “اس اس”، تتضمن الاسماء وتواريخ الميلاد ومستوى التعليم والمواقع التي تولوها.. فكانت النتيجة مذهلة، لقد حصلنا على لوائح فيها العشرات من الاسماء تولى عناصر “غمول” ملاحقتها ومنهم من كانوا جرحى في مستشفيات محلية تحت اسماء وهمية، ومن هؤلاء تم الحصول ايضاً على معلومات اضافية كثيرة بعد ان كان يعدهم عناصر “غمول” انهم ان تعاونوا، لن يتعرضوا لأذى ولكن بعد ان تستنفذ منهم كل معلوماتهم، كان يصار الى اعدامهم واخفاء جثثهم”.
تولى غيشون شخصياً الكثير من عمليات القتل التي كانت تبدأ أولاً بالتحقق من اسم الهدف وتحديد مكانه وبعدها الحصول على كل تفاصيل حركته. يقول غيشون المولود في المانيا “لم يشتبه احد بي فقد كانت اوتاري الصوتية من اصول برلينية. كنت اقف عند محل بقالة او قرب ملهى او حتى كنت اقرع الباب لنقل التحيات إلى شخص ما، في معظم الاحيان، كان الهدف يرد عندما اناديه باسمه الحقيقي او يلزم الصمت، وهذا كان بمثابة تأكيد لمعلوماتي، وما ان يتم التأكد من الهوية حتى كنت ارسم خارطة تفصيلية لمنزل الهدف او للمنطقة التي ستتم تصفيته فيها”.
كانت عملية الاغتيال تتم بواسطة فرق لا يتجاوز عديد الواحدة منها الخمسة افراد، وكان هؤلاء في معظم الاحيان عند لقائهم مع الهدف يرتدون الزي العسكري البريطاني حيث يقولون للهدف انهم يريدون اخذه للتحقيق، فكان الهدف في معظم الاحيان يمضي معهم من دون اعتراض. يقول احد افراد هذه الفرق وإسمه شالوم غيلادي في شهادة له وجدها بيرغمان في ارشيف “الهاغاناه”: “كان الهدف يقتل فوراً وفي احيان اخرى يصار الى سوقه الى مناطق نائية حيث تتم تصفيته”.
إبادة “طائفة المعبد”
ويورد بيرغمان بعض نماذج الاغتيال والقتل المتعمد التي نفذها عملاء “غمول” والتي تقشعر لها الابدان وبعضها يتضمن اغتصاب ضابطة نازية قبل اعدامها. ويقول ان هذه العمليات استمرت قرابة ثلاثة اشهر قتل خلالها عملاء “غمول” ما بين مئة الى مئتي شخص، ويقول مؤرخون لعمل هذه الوحدة السرية انه بعد متابعة دقيقة للذين قتلوا تبين ان ابرياء إستهدفوا، اما بسبب اخطاء في الهوية او بسبب استغلال البعض هذه الوحدة لتنفيذ تصفيات تخدم مصالح طرف ما ضد طرف اخر. وقد تم وقف نشاط “غمول عندما اكتشف الانكليز ما يحصل من جراء الشكاوى العديدة التي تلقوها عن اختفاء افراد من عائلات المانية، لكن الانكليز لم يحققوا في اي من هذه العمليات بل اكتفوا بنقل “اللواء اليهودي” بعيدا عن المانيا الى كل من بلجيكا وهولندا. كما اصدرت قيادة “الهاغاناه” امرا بوقف عمليات الانتقام.
يقول بيرغمان إن عمليات القتل التي كان ينفذها عناصر “غمول” انتقلت من اوروبا الى داخل فلسطين حيث مكان وجود العديد من ابناء طائفة “المعبد” الالمانية. هؤلاء الألمان كانت السلطات البريطانية قد ابعدتهم من فلسطين مع بداية الحرب العالمية بسبب تعاطفهم مع النازية، وقد انضم الكثير منهم للجهود النازية في الحرب وشاركوا في تصفية اليهود، ولكن مع انتهاء الحرب، عاد العديد منهم الى فلسطين. وكان زعيم هذه الطائفة الالمانية في فلسطين صناعي غني يدعى غوتهيلف فاغنز شارك في اعمال الجيش الالماني و”الغستابو” خلال الحرب.
في 22 آذار/مارس 1946، اغتيل غوتهليف فاغنر في مدينة تل ابيب على ايدي مجموعة قتلة محترفين بأمر من القيادة العليا لـ”الهاغاناه”، واذيع الخبر في اليوم التالي عبر الاذاعة السرية لـ”الهاغاناه”، مستتبعاً بالقول “فليكن معلوماً ان لا مكان لنازي ان تطأ قدمه تراب اسرائيل”. بعدها قتلت فرق اغتيال “الهاغاناه” اثنين من ابناء طائفة “المعبد” في منطقة الجليل واثنين اخرين في منطقة حيفا. هذه العمليات ادت الى اختفاء ابناء طائفة المعبد. وقد اصبح مقر طائفتهم في تل ابيب لاحقاً مقر قيادة الجيش الاسرائيلي واجهزة مخابراته واصبح رافائيل ايتان (كان عمره 17 سنة عندما نفذ عملية اغتيال فاغنر) احد مؤسسي وحدة الاغتيال في جهاز “الموساد”.
إخراج بريطانيا من فلسطين
يقول بيرغمان ان تصفية طائفة “المعبد” في فلسطين شكل تحولاً كبيراً، فمنذ ذلك التاريخ اعطى كل من بن غوريون و”الهاغاناه” سياسة الاغتيال وحرب العصابات أولوية على ما عداها في سياق السعي لاقامة الدولة اليهودية. وفي سياق ترجمة هذا التحول التاريخي، يقول بيرغمان، أنشأت وحدات “الهاغاناه” كتيبة خاصة لشن عمليات “ارهاب شخصي”، وهو تعبير استخدم في ذلك الوقت لوصف عمليات القتل المتعمد لضباط ومسؤولين انكليز في مكتب التحقيقات الجنائية الذي كان يطارد المنظمات الصهيونية المتطرفة وتفجير مراكز الاستخبارات البريطانية والمحاكم البريطانية التي تصدر احكاماً ضد يهود متطرفين.
وقد تنبأ بن غوريون حينها، بحسب بيرغمان، بان الدولة اليهودية الناشئة ستكون عاجلاً أم آجلاً امام مواجهة حربية مع العرب في فلسطين ومع احتمالات مواجهة مع جيوش عربية في الدول المجاورة. لذلك، بدأت قيادة “الهاغاناه” التحضير بشكل سري لحرب واسعة النطاق، وبينها إطلاق حملة إغتيالات ضد شخصيات قيادية فلسطينية، وهذه العملية اسميت “زرزير” اي الزرزور (احد انواع الطيور).
“لقد قتلونا”
وفيما كانت اوامر “الهاغاناه” قيد التحضير، باشرت مجموعات صهيونية متطرفة بتنفيذ عمليات الاغتيال والقتل المتعمد في مسعى لاخراج القوات البريطانية من فلسطين. ومن ابرز قيادات هذه المجموعات اسحاق شامير الذي كان يقود منظمة “ليهي”، وقد اصدر الاوامر ليس فقط بقتل مسؤولين من الانتداب البريطاني في فلسطين من ضمنهم رئيس الشرطة في القدس مايكل جوزيف ماكونيل والمندوب السامي البريطاني هارولد ماك مايكل بل ايضا مسؤولين بريطانيين في دول اخرى كان يعتبر انهم يشكلون تهديدا لاهدافه السياسية، وبينهم والتر ادوار غينيس الذي كان يعرف باسم لورد موين والذي كان يشغل منصب وزير الدولة البريطاني المقيم في القاهرة التي كانت حينها تحت الحكم البريطاني. وقد اصدر شامير الامر بقتل لورد موين وارسل اثنين من اعضاء منظمته، الياهو حكيم والياهو بيتزوري، الى القاهرة حيث انتظرا امام منزل الهدف وعند خروجه من المنزل اطلقا عليه وعلى سائقه النار فامسك موين بحنجرته المصابة وصرخ “لقد قتلونا” قبل ان يسقط في مقعده مضرجا بدمائه، وكانت خطة شامير ان يغادر القتلة منطقة العملية بسيارة ولكنهما غادرا بدراجة هوائية ما أتاح للشرطة القبض عليهما حيث حوكما واعدما بعد ستة اشهر.
ان نتائج عملية الاغتيال هذه، يقول بيرغمان، لم تأت كما توقع لها شامير، اذ ان رئيس الوزراء البريطاني حينها وينستون تشرشل، وهو من ابرز المتحمسين لدعم قيام الدولة اليهودية، كان متوجهاً الى قمة يالطا حينها مع الرئيسين الاميركي فرانكلين روزفلت والروسي جوزيف ستالين حاملا معه طلبا بدعم قيام الدولة اليهودية، لكن عملية الاغتيال جعلته يعلن أنه سيعيد النظر بموقفه.
فندق الملك داود
بعد عملية “ليهي” في القاهرة، امر مناحيم بيغن الذي كان يقود منظمة “ايرغون” بتفجير فندق الملك داود في القدس في 22 تموز/يوليو 1946 بحوالي 350 كيلوغراما من المتفجرات، وكان الفندق مقرا لادارة الانتداب والمخابرات البريطانية في فلسطين وقد قتل في التفجير 91 شخصاً واصيب 45 آخرين، بينهم عدد من اليهود. اثارت العملية نقاشات في اوساط القيادات اليهودية في فلسطين، إذ اعلن بن غوريون ان “ايرغون” باتت عدواً للشعب اليهودي. ومع ذلك، واصل المتطرفون عملياتهم ضد الانكليز، فبعد ثلاثة اشهر من تفجير الفندق، قامت خلية سرية تابعة لمنظمة “ليهي” بتفجير السفارة البريطانية في روما من دون علم وموافقة بن غوريون، ولكن نظراً لان العملية تمت ليلاً، سقط فقط ثلاثة جرحى، احدهم حارس السفارة واثنان من الايطاليين المارة. بعد العملية، ارسلت منظمة “ليهي” رسائل بريدية مفخخة لكل عضو في الحكومة البريطانية في لندن، لكن اياً من هذه الرسائل لم تنفجر وانتهت العملية بفشل ذريع علما انها اوصلت لبريطانيا رسالة قوية، وقد وصفت المخابرات البريطانية، بحسب وثائق ارشيفها، الارهاب الصهيوني بانه الخطر الاكبر على الامن القومي البريطاني، وحتى انه اكثر خطرا من الاتحاد السوفياتي نفسه، وتقول هذه الوثائق ان خلايا تابعة لمنظمة “ايرغون” في لندن كانت تحضر لهجمات ضد مسؤولين بريطانيين، بينهم وزير الخارجية ايرنست بيفن ورئيس الوزراء نفسه كليمنت اتللي. وتحصي وثائق المخابرات البريطانية 176 قتيلاً بين موظفين في ادارة الانتداب البريطاني ومدنيين انكليز في فلسطين. “اعمال القتل هذه هي التي ادت الى خروج البريطانيين من فلسطين، ولولاها لما قامت دولة اسرائيل”، على حد تعبير ديفيد شومرون.
إسرائيل ترصد الإتصالات منذ الأربعينيات
إستعرض الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان في فصول سابقة من كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية” أبرز عمليات الإغتيال التي نفذتها مجموعات صهيونية متطرفة ضد مسؤولين في إدارة الإنتداب البريطاني لفلسطين. في هذا الفصل، يعرض بيرغمان كيف أصبحت المجموعات الدموية نفسها النواة المؤسسة لقيادة ومؤسسات الكيان الصهيوني.
يبدأ رونين بيرغمان هذا الفصل من الكتاب بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة تقسيم فلسطين الى دولتين، واحدة منهما لليهود وذلك في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 (دخل حيز التنفيذ بعد ستة اشهر من صدوره). تزامن الاعلان مع عاملين اساسيين اديا الى قيام الكيان الصهيوني، اولهما، اكتمال البنية التحتية للحركات الصهيونية كنواة لقيام الاجهزة الامنية والعسكرية والاستخباراتية والادارية للدولة، مقابل عدم وجود اية نواة لقيام دولة فلسطين لجهة التنظيم والادارة، اذ كان الجانب الفلسطيني بعيدا كل البعد عن اية اشكال تنظيمية بالرغم من الحماسة الوطنية، ثانيها، تحالف الحركات الصهيونية مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ومشاركتها في المعارك من خلال لواء اليهود في الجيش البريطاني مقابل مراهنة الفلسطينيين على العلاقة مع ألمانيا النازية التي خسرت الحرب. في سياقه السردي، يُظهر بيرغمان الفلسطينيين بصورة المعتدي عبر عملية السرد القائمة على ان كل ما ارتكبته العصابات الصهيونية كان بمثابة ردة فعل على اعمال عدائية فلسطينية، متناسياً ان العدد الاكبر من اليهود في فلسطين هو من المهاجرين الذين اتوا واستوطنوا على اراض يملكها فلسطينيون.
“الحرب الأهلية”
يقول بيرغمان ان الرد الفلسطيني على القرار الدولي جاء بعد يوم واحد من صدوره، اذ شنّ القائد الفلسطيني حسن سلامة مع مجموعة من رفاقه هجوماً على حافلتين تقلان يهوداً قرب مستوطنة “بتاح تكفا” وسط فلسطين، فتسببوا بقتل ثمانية اشخاص وجرح آخرين، لتنطلق بعدها ما يصفها بيرغمان بـ”الحرب الاهلية” بين اليهود والفلسطينيين، فيما يصح توصيفها بأنها كانت حرباً بين اصحاب الارض ومهاجرين قادمين من مختلف اصقاع المعمورة. يقول مؤلف الكتاب ان حسن سلامة وقف بعد هذا الهجوم في الساحة الرئيسية لمدينة يافا الساحلية يخاطب جمهور الفلسطينيين قائلاً “سيكون هناك حمام دم في فلسطين”. يضيف بيرغمان “لقد وفى سلامة بوعده إذ قتل في الاسبوعيين التاليين 48 يهودياً وجرح 155 اخرين”. وكان سلامة حينها يقود قوة مؤلفة من حوالي 500 مقاتل، بحسب بيرغمان، واصبح ينظر اليه كقائد وطني بطل بلغت هجمات مجموعته قلب تل ابيب.
يقول بيرغمان انه في ذلك الوقت، كان ديفيد بن غوريون يعتبر الفلسطينيين اعداء والبريطانيين رعاة لهم حتى فترة تنفيذ القرار الدولي في ايار 1948. ويضيف ان تسليح وحدات “الهاغاناه” كان ضعيفاً حينها وفي مستودعات سرية بعيداً عن اعين سلطات الانتداب البريطاني. لكن بيرغمان يناقض نفسه عندما يقول ان تدريبات عناصر “الهاغاناه” كانت ضعيفة، ذلك انه يقول في مكان آخر ان النواة الاساسية خدمت في صفوف الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، ولكن كان العدد الاكبر من هؤلاء العناصر، من المهاجرين اليهود الذين نجوا من “الهولوكوست”، وبينهم من خدموا في صفوف الجيش الاحمر السوفياتي!
ويشرح بيرغمان ان بن غوريون لاقى قناعة إستخباراتية غربية ولا سيما امريكية مفادها ان الفارق العددي لصالح الفلسطينيين سيؤدي الى انهيار القوات اليهودية. ولكن بن غوريون بالرغم من ذلك كان واثقا من “النصر”.
“الهاغاناه” وخطة “سيترلينج”
يشرح الكاتب كيف إختارت وحدات النخبة في “الهاغاناه” اهدافاً ذات تأثير قوي على الفلسطينيين. ومن ضمن هذه الخطة، التي اطلق عليها اسم “ستيرلينج”، اختارت “الهاغاناه” 23 قائداً فلسطينياً ليكونوا هدفا لعملياتها. وينقل بيرغمان عن قائد قوات “الهاغاناه” حينها ياكوف دوري قوله في وصف الخطة انها كانت مؤلفة من ثلاث طبقات: “قتل القادة الفلسطينيين؛ او اعتقالهم؛ وضرب المراكز السياسية والاقتصادية والصناعية للفلسطينيين”. وكان على رأس قائمة الاهداف حسن سلامة نفسه الذي كان يعمل تحت قيادة مفتي القدس الحاج امين الحسيني الذي قاد الانتفاضة الفلسطينية في العام 1936.
وقد غادر سلامة والحسيني فلسطين إثر اعلان سلطات الانتداب البريطاني انهما بين اكثر الاشخاص المطلوبين. ويزعم بيرغمان ان القائدين الفلسطينيين الحسيني وسلامة وحّدا جهودهما في العام 1942 مع اجهزة الاستخبارات النازية والـ”اس. اس” لتنفيذ عملية عسكرية ضخمة تحت اسم “عملية اطلس” والتي كانت تقتضي انزال مجموعات من المظليين الالمان والفلسطينيين في تل ابيب لتسميم مصادر المياه في تل ابيب وقتل اكبر عدد ممكن من اليهود، وقد فشلت هذه الخطة فشلاً ذريعاً بعد ان كانت القوات البريطانية قد فكت شيفرة “انيجما” الالمانية، فاعتقلت القائد سلامة واربعة من رفاقه اثر هبوطهم في صحراء مدينة اريحا في 6 تشرين الاول/أكتوبر عام 1944.
إغتيال حسن سلامة أولوية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان القسم السياسي للوكالة اليهودية العامل في اوروبا (وهو فعلياً جهاز استخبارات) يضع نصب عينيه ملاحقة الحسيني وتتبع حركاته وقتله وقد نفذ العديد من المحاولات الفاشلة بين العامين 1945 و1948 وكان الهدف المعلن هو الانتقام منه لتحالفه مع النازيين خلال الحرب ولكن الهدف المضمر هو دفاعي بإمتياز، بحسب بيرغمان، فقد كان الحسيني، وعلى الرغم من وجوده خارج فلسطين، ناشطاً في تنظيم الهجمات ضد المستوطنين اليهود في شمال فلسطين وفي محاولات عدة لاغتيال قادة يهود ولكن نظراً لضعف استخباراته وسوء التدريبات لعناصره باءت كل هذه المحاولات بالفشل.
كانت مطاردة سلامة اول عملية لـ”الهاغاناه” يدمج فيها العامل البشري مع العامل الالكتروني وكانت “عملية واعدة”، بحسب بيرغمان، فقد تمكنت وحدة من استخبارات “الهاغاناه” المسماة حينها “شاي” بقيادة ايسير هاريل من التعليق على خطوط الهاتف الرئيسية التي توصل مدينة يافا بباقي انحاء البلاد وذلك تحت احدى المدارس الزراعية، ومن خلال رصد المكالمات بين النشطاء العرب، سمعت الوحدة حسن سلامة يقول في احدى المكالمات انه سيأتي الى يافا، فنصبت له كميناً على الطريق الذي سيسلكه حيث تم رمي جذع شجرة لاعاقة حركة سيارته. لكن العملية فشلت شأنها شأن عمليات عديدة اخرى قبل ان يقتل سلامة في مواجهة حصلت لاحقاً.
القتل بالأنابيب المعدنية
يقول بيرغمان انه من العمليات الناجحة كانت تلك التي نفذتها وحدات النخبة في “الهاغاناه” التي كانت تتبع عملياً لميليشيا “بالماخ” الجيدة التدريب والتسليح. هذه الميليشيا كانت تتميز بكتيبتين هما “باليام” (الكتيبة البحرية) و”مفرزة المستعربين” التي كان عناصرها يتنكرون بالزي العربي. وينقل الكاتب عن ابراهام دار، احد عناصر وحدة “باليام”، قوله ان اولى مهام وحدته كانت السيطرة على ميناء حيفا فور مغادرة القوات البريطانية البلاد والاستيلاء على الاسلحة والذخائر التي يخلّفها البريطانيون وراءهم ومنع الفلسطينيين من القيام بذلك. وينقل الكاتب عن إبراهام دار أيضاً قوله انه واثنان من وحدته تنكروا بزي جنود بريطانيين والتقوا بوسطاء فلسطينيين حيث زعموا انهم يودون بيع كميات من السلاح المسروق، وحددوا لهم موعداً لعملية التبادل قرب طاحونة احدى القرى الفلسطينية، حيث كمنت مجموعة اخرى من وحدته لهم وانقضت على الوفد الفلسطيني لتقتل اعضاءه بانابيب معدنية كي لا تستخدم الاسلحة النارية التي كان كان يمكن لأصواتها أن تفضحهم.
اما عن “مفرزة المستعربين”، فيقول بيرغمان ان “الهاغاناه” انشأتها عندما تيقنت انها بحاجة لخلايا من المقاتلين المدربين جيداً للعمل خلف خطوط العدو، وكانت عملياتها تتضمن جمع المعلومات وتنفيذ عمليات تخريب للمنشآت وعمليات اغتيال. وكان معظم عناصر هذه الوحدة من اليهود المهاجرين من دول عربية وتضمنت تدريباتهم تكتيك الحرب الانصارية والتفجيرات بالاضافة الى التعمق في دراسة الاسلام والتقاليد العربية.
مفرزة المستعربين
ويروي بيرغمان كيف اثمر التعاون بين “مفرزة المستعربين” و”باليام” العديد من العمليات الناجحة، ومنها محاولة اغتيال الشيخ نمر الخطيب رئيس المنظمة الاسلامية الفلسطينية الذي كان له تأثيره الكبير في الشارع الفلسطيني، وفي شباط/فبراير من العام 1948، كمنت قوة مشتركة من الوحدتين للخطيب، وتمكنت من اصابته بجروح خطرة ادت الى نقله خارج فلسطين حيث لم يلعب اي دور بعدها. ويروي بيرغمان نقلا عن إبراهام دار كيف تمكنت قوة مشتركة من الوحدتين من تفجير سيارة اسعاف كان الفلسطينيون، بحسب زعمه، قد فخّخوها بالمتفجرات بهدف تفجيرها في الحي اليهودي المكتظ في حيفا.
يقول بيرغمان انه قبل اعلان بن غوريون قيام “دولة اسرائيل” في 14 ايار/مايو عام 1948، كان الأخير قد عمل بصورة حثيثة على نسج شبكة علاقات واسعة مع مصادر في الدول العربية، وقبل الاعلان بثلاثة أيام، ابلغه رئيس القسم السياسي للوكالة اليهودية (قسم المخابرات في الوكالة) ان الدول العربية قرّرت شن هجوم واسع على المستوطنات اليهودية تزامناً مع الاعلان. وثبُت لاحقاً ان هذه المعلومة كانت دقيقة، اذ بعد ساعات من اعلان الدولة، وفي منتصف الليل، شنّت سبعة جيوش عربية هجوماً واسع النطاق على المستوطنات حققت خلاله نتائج مهمة في البداية وتسببت بالكثير من الخسائر البشرية، ولكن المستوطنين اليهود تمكنوا من استيعاب الصدمة واعادة تجميع انفسهم وخطوط دفاعهم وإنتقلوا الى الهجوم. وبعد قرابة الشهر من المعارك وبوساطة من الامم المتحدة عبر مبعوثها الخاص الكونت فولك برنادوت، توصل الطرفان الى وقف لاطلاق النار.
إنشاء الوكالات الثلاث
بعد استئناف القتال، كانت الصورة قد انقلبت رأساً على عقب لمصلحة المستوطنين بفضل استخباراتهم القوية وادارتهم المنظمة للقتال. وبذلك، تمكن المستوطنون ليس فقط من صد الهجمات العربية بل التوسع في اراض فلسطينية لم يشملها القرار الدولي بالتقسيم.
ويستطرد بيرغمان هنا بالقول ان بن غوريون لم تغره الانتصارات المحققة، فأخذ يعمل على بناء أجهزة تجسس محترفة تتناسب مع “قيام الدولة الشرعية”، ولم يواجه بن غوريون كثير عناء في إقناع قادته بذلك خلال الاجتماع الذي عقده في 7 حزيران/يونيو (أي بعد ثلاثة أسابيع من إعلان الدولة). فتقرر خلاله انشاء ثلاث وكالات، الاولى، هي قسم الاستخبارات التابع للقيادة العامة لقوات الدفاع الاسرائيلية والتي عرفت اختصارا باسم “امان”؛ الثانية، هي وكالة الامن العام وعرفت اختصارا باسم “شين بيت” وكانت مهماتها محصورة بالامن الداخلي وهي على شاكلة “اف بي آي” الامريكية و”ام اي فايف” البريطانية (تم تغيير اسم هذه الوكالة لاحقا ليصبح وكالة الامن الاسرائيلي او “الشاباك”)؛ الثالثة، هي القسم السياسي التابع للوكالة اليهودية والمتخصص باعمال الاستخبارات الخارجية وجمع المعلومات.
بن غوريون يأمر بإغتيال رياض الصلح
يواصل الصحافي “الاسرائيلي” رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه “انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية” إستعراض المرحلة الاولى من إعلان الكيان الصهيوني وما تخلّلها من تنظيم للمؤسسات الأمنية.
يقول بيرغمان إن أولى الخطوات التي نفذت في هذا الإطار كانت إستيعاب عناصر وكوادر وكالات “الهاغاناه” في الأجهزة الأمنية والإستخبارية المستحدثة في الكيان العبري الناشىء، وينقل عن إيسر هاريل، أحد الآباء المؤسسين للأجهزة الإستخبارية الإسرائيلية قوله في وصف تلك السنوات الأولى من عمر الكيان “كانت سنوات صعبة، كان علينا أن ننشىء بلداً وندافع عنه، ولكن التركيب التنظيمي للوكالات الأمنية وتوزيع العمل في ما بينها تم من دون أحكام منظمة ومن دون النقاش مع الأشخاص الملائمين وفي كثير من الأحيان بطريقة مؤامرتية”. ويعلق الكاتب هنا بالقول “في الأوضاع العادية، يقوم الإداريون بتحديد أطر العمل والحدود الفاصلة بين الوكالات، ويقوم العملاء الميدانيون بتكييف مصادر معلوماتهم ومراكمتها مع مرور السنين، ولكن إسرائيل لم تكن تملك هذا الترف، اذ كان عليها أن تبني عملياتها الإستخبارية في خضم مواجهة قاسية وتحت الحصار وفي قلب معركة الدفاع عن وجودها”.
أولى التحديات التي واجهت عملاء ديفيد بن غوريون في تلك المرحلة، يضيف بيرغمان، كان التحدي الداخلي، إذ كان هناك الكثير من منظمات اليهود اليمينيين المتطرفين الذين يرفضون سلطة بن غوريون، وخير مثال على ذلك ما عرف بموضوع “التالينا”، وهي سفينة أرسلتها منظمة “أرغون” من أوروبا إلى “إسرائيل” وعلى متنها مهاجرين يهود وكميات من الأسلحة، وقد رفضت المنظمة تسليم الأسلحة للجيش الذي كان قد أُنشىء حديثاً، وأصرت على الإحتفاظ بها وتوزيعها على خلاياها. عرف بن غوريون من خلال عملائه في المنظمة بالأمر، فأمر بأن تصادر الأسلحة بالقوة، وعندما بدأ تنفيذ الأمر تطور إلى إشتباك بالنيران بين قوات الجيش وعناصر المنظمة، ما أدى إلى غرق السفينة ومقتل 16 عنصراً من المنظمة وثلاثة عناصر من الجيش. بعد هذا الحادث بوقت قصير، نفذت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات لعناصر المنظمة أدت إلى إعتقال أكثر من 200 شخص وبالتالي أدت إلى إنهاء وجودها.
خطة برنادوت
من التحديات الأمنية أيضاً، يقول بيرغمان، أن إسحاق شامير (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء) وكل عناصر منظمة “ليهي” التي يقودها رفضوا ما وصفوه “السلطة المعتدلة” لبن غوريون، وذلك على خلفية الموقف من الخطة التي طرحها مبعوث الامم المتحدة الكونت فولك برنادوت في صيف ذلك العام (1948) لإنهاء القتال مع العرب في فلسطين. رفض شامير ومنظمته الخطة وإتهم برنادوت بأنه تعاون مع النازيين إبان الحرب العالمية الثانية.
يذكر أن خطة برنادوت تضمنت حينذاك إعادة رسم حدود “دولة إسرائيل” بإعطاء معظم منطقة النقب والقدس للعرب ووضع ميناء حيفا ومطار اللد تحت السيطرة الدولية وإجبار الدولة اليهودية على إعادة 300 ألف لاجىء فلسطيني.
أثارت خطة برنادوت غضب شامير ومنظمة “ليهي” التي أصدرت تحذيرات شديدة اللهجة للمبعوث الدولي يقول أحدها “نصيحة للعميل برنادوت ارحل من بلادنا”، أما الإذاعة السرية للمنظمة فقد ذهبت أبعد من ذلك في تهديداتها لبرنادوت عبر نشرها بياناً يقول “سينتهي الكونت كما إنتهى اللورد (في إشارة إلى إغتيال مبعوث الإنتداب البريطاني لفلسطين لورد موين)”. تجاهل الكونت برنادوت التهديدات وإستخف بها لدرجة أنه أمر المراقبين الدوليين بعدم حمل السلاح قائلاً لهم “علم الأمم المتحدة يحمينا”!
تولدت لدى شامير قناعة بان بن غوريون سيوافق على خطة برنادوت فأمر بإغتيال المبعوث الدولي. وهكذا في 17 ايلول/سبتمبر 1948، وبعد أربعة أشهر على قيام الدولة، وبعد يوم واحد من تقديم برنادوت خطته بصورة رسمية إلى مجلس الأمن الدولي، وبينما كان يتحرك في موكب مؤلف من ثلاث سيارات من نوع “سيدان” في إحدى ضواحي القدس، قطعت سيارة جيب الطريق عليه، فقفز منها ثلاثة شبان، إثنان منهم أطلقوا النار على إطارات السيارات، وفتح الثالث، واسمه يهوشوا كوهين، باب سيارة برنادوت وأطلق نيران رشاشه من نوع “شمايزر ام بي 40″، على من بداخلها، فاصابت طلقاته الرجل الجالس قرب الكونت، وهو كولونيل فرنسي إسمه اندريه سيروت، وأصابت الصلية الثانية الكونت مباشرة في صدره، فمات الإثنان على الفور لينتهي الهجوم في غضون ثوانٍ معدودة. ويصف ضابط الإتصال الإسرائيلي الذي كان في موكب الكونت، الكابتن موشيه هيلمان، العملية قائلاً “تماماً كالبرق والرعد كانت سرعة إطلاق خمسين طلقة”، ولم يجر إعتقال الجناة منفذي العملية أبداً، حسب قول بيرغمان.
حل منظمة “ليهي”
كانت عملية إغتيال الكونت أول إعتداء تتعرض له الأمم المتحدة بعد ثلاثة أعوام على إنشائها، وقد أدت إلى إحراج القيادة اليهودية، خاصة وأن مجلس الأمن الدولي أدان العملية، ووصفها بـ”العمل الجبان الذي قامت بتنفيذه مجموعة من المجرمين والإرهابيين في القدس”. وقد علّقت صحيفة “نيويورك تايمز” على العملية بالقول “ما من ضرر كان يمكن أن تسببه الجيوش العربية للدولة اليهودية يفوق الضرر الذي تسببت به هذه العملية”.
إعتبر بن غوريون أن “العملية المارقة” تشكل تحدياً لسلطته، وقد تقود إلى إنقلاب في البلاد أو إلى حرب أهلية، فأمر على الفور بإعتبار كل من منطمتي “ليهي” و”أرغون” منظمات خارجة على القانون، وأمر قائد جهاز “الشين بيت” إيسر هاريل بإعتقال كل عناصر “ليهي”، وعلى رأسهم اسحاق شامير نفسه، لكن الأخير لم يعتقل فيما جرى إعتقال العديد من أعضاء منظمته، وجرى التحفظ عليهم تحت الحراسة المشددة لفترة من الزمن.. وصولاً إلى إنهاء وجود هذه المنظمة، وكافأ بن غوريون هاريل بأن جعله رجل الإستخبارات الأول في البلاد.
ويصف بيرغمان هاريل بأنه رجل قصير القامة صلب ومتأثر بحركة الثورة البلشفية الروسية وإستخدامها عمليات التخريب وأنشطة حرب الأنصار والإغتيال، ولكنه كان ضد الشيوعية، وتحت إمرته حافظ جهاز “الشين بيت” على عمليات التجسس الداخلي ضد كل الخصوم السياسيين لبن غوريون، وواظب على وضعهم تحت المراقبة الدقيقة وكان هؤلاء الخصوم مروحة واسعة من قوى شيوعية ويسارية وإشتراكية إلى حزب “هيروت” اليميني الذي أنشأه عناصر من منظمتي “أرغون” و”ليهي” المنحلتين.
بن غوريون يأمر بإغتيال الصلح
ينتقل بيرغمان من التحديات الداخلية لـ”الدولة” الوليدة إلى التحديات الخارجية، فيقول إن بن غوريون ووزير خارجيته موشيه شاريت كانا يعملان بقوة على صياغة السياسة التي يتوجب إتباعها مع العرب. وقد كان شاريت من أوائل المسؤولين الإسرائيليين الكبار الذين يعتقدون أن الدبلوماسية هي الطريقة الأفضل لتحقيق السلام الإقليمي وتأمين أمن البلاد. لذلك وقبل إعلان الدولة، أجرى شاريت إتصالات سرية مع ملك الأردن عبدالله (والد الملك حسين) ومع رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح اللذين كانا يلعبان دوراً كبيراً في تشكيل التحالف المناهض للدولة الجديدة ويساعدان الميليشيات الفلسطينية في شن هجمات دموية تسببت بعدد كبير من “الضحايا” اليهود…
بالرغم من موقف رياض الصلح المعروف بعدائه للدولة اليهودية، فإنه أجرى خلال العام 1948 عدة لقاءات في العاصمة الفرنسية باريس مع الياهو ساسون أحد مساعدي موشيه شاريت “لمناقشة إمكانية عقد اتفاقية سلام”، كما يقول بيرغمان، وينقل عن ساسون قوله في إجتماع للحكومة “الإسرائيلية” إنه إذا كان لا بد من إتصالات مع العرب لإنهاء الحرب “فلا بد أن تكون هذه الاتصالات مع الذين في السلطة حالياً، مع هؤلاء الذين أعلنوا الحرب علينا..”.
لم تنجح المساعي الدبلوماسية الإسرائيلية في تحقيق أي شيء، فأصدر بن غوريون أمراً بتاريخ 12 كانون الاول/ديسمبر 1948 للمخابرات العسكرية بإغتيال رياض الصلح. ينقل بيرغمان عن آرثور بن ناتان في القسم السياسي لوزارة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الحين قوله “إن شاريت كان بالمطلق ضد فكرة إغتيال الصلح وعندما طلب من قسمنا السياسي مساعدة الإستخبارات العسكرية في تنفيذ الأمر عبر إتصالات مع مصادرنا في بيروت، رفض شاريت الأمر ودفنه في مهده”.
الإمساك بالأجهزة
يقول بيرغمان إن هذه الحادثة بالإضافة الى إشكالات أخرى بين شاريت وهاريل، جعلت الدماء تغلي في عروق بن غوريون الذي إعتبر أن الجهاز الدبلوماسي لديه أضعف من أن يماشي المؤسسة العسكرية القوية ووكالات الإستخبارات الجبّارة، وإعتبر أن شاريت شخصياً ينافسه ويشكل تهديداً لسلطته، فأمر في كانون الاول/ديسمبر 1949 بنقل القسم السياسي من تحت سلطة وزير الخارجية ليصبح تحت سلطته المباشرة كرئيس للوزراء، وحوّله لاحقاً إلى وكالة تحمل إسم “مؤسسة الإستخبارات والعمليات الخاصة”، وهي المؤسسة المعروفة عند العامة بإسم “المؤسسة” أو “الموساد”.
بعد ذلك، أصبحت “الموساد” كوكالة إستخبارات، واحدة من ثلاث وكالات أمنية في البلاد لا تزال تحتفظ إلى يومنا هذا وإلى حد ما بالشكل الذي أنشئت عليه، وهي “أمان” أي الإستخبارات العسكرية التي تزوّد الجيش بالمعلومات، و”الشين بيت” المسؤولة عن الاستخبارات الداخلية ومكافحة الإرهاب ومكافحة التجسس، و”الموساد” التي تتولى كل الأنشطة السرية خارج حدود البلاد. يقول بيرغمان إن هذا القرار شكّل إنتصاراً لايسر هاريل الذي كان يتولى مسؤولية جهاز “الشين بيت”، فأُضيفت الى مسؤولياته أيضاً مسؤولية قيادة “الموساد” ليتحول إلى الرجل الأمني الأقوى في تاريخ الدولة الناشئة.
يقول بيرغمان إن هذه القرارات جعلت كل وكالات الأمن والإستخبارات تحت السلطة المباشرة لبن غوريون، فـ”الموساد” و”الشين بيت” كانتا تحت سلطته كرئيس للوزراء. والاستخبارات العسكرية (“امان”)، كانت تحت سلطته كوزير للدفاع (كان يحتفظ بهذه الحقيبة إلى جانب كونه رئيساً للوزراء). ويضيف الكاتب أن هذه السلطة الهائلة، سياسياً وعسكرياً وأمنياً بيد بن غوريون، بقيت بعيدة عن أعين العامة من الناس لأن بن غوريون كان صارماً في إحاطة هذه الشبكة العنكبوتية من الأجهزة الأمنية الرسمية بجدار من الكتمان حتى العام 1960، كما أن بن غوريون منع وضع أية أسس قانونية لعمليات “الموساد” و”الشين بيت” أو وضع أي قانون يحدد أهدافهما ودورهما ومهماتهما أو حتى موازناتهما والعلاقة بينهما، أي أبقاهما تحت العتمة تماماً وتحت أمرة بن غوريون ومن دون أي إشراف أو مراقبة من البرلمان (الكنيست) أو أية جهة أخرى.
ويختم بيرغمان هذا الفصل بالقول إنه في إطار شعار “أمن البلد”، كان يجري تبرير الكثير من الأعمال والعمليات التي لو ظهرت للعلن لكانت محل مساءلة قانونية وجرمية بالتأكيد وكانت ستؤدي بمرتكبيها إلى السجن لسنوات طويلة. ومن ضمن هذه الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر، المراقبة المستمرة لمواطنين فقط بسبب إنتمائهم العرقي أو السياسي؛ أساليب التحقيق التي تضمنت إعتقال أشخاص لفترات طويلة بلا مسوغ قانوني والتعذيب خلال الإعتقال وإخفاء الحقيقة عن القضاء.
عن تهديد مصر لإسرائيل ورمى الجثث في البحر
يقول رونين بيرغمان انه في تموز/يوليو 1952، اقيم في المتحف الوطني في القاهرة معرض لرسوم الفنان الفرنسي الألماني شارلز دوفال، وهو شاب طويل القامة، تتدلى السيجارة من شفتيه دائماً على طريقة الفنانين البوهيميين، وكان انتقل من باريس إلى القاهرة قبل عامين من ذلك التاريخ، بذريعة “عشقه ارض النيل”، وقد امتدحت الصحافة المصرية أعمال دوفال ليتحول بعدها إلى شخصية تختلط بكبار القوم في مصر، ومنهم وزير الثقافة.
بعد خمسة اشهر من معرضه، تذرع دوفال بمرض والدته في باريس، وقال انه مضطر للعودة للاعتناء بها، وغادر القاهرة وارسل بعد ذلك بضعة رسائل لاصدقاء فيها قبل أن تنقطع أخباره كلياً، ويقول بيرغمان ان دوفال هذا لم يكون سوى جاسوساً يعمل لـمصلحة “الموساد” واسمه الحقيقي شلومو كوهين اباربانيل، وهو الاصغر بين اربعة اخوة لأب حاخام من مدينة هامبورغ في المانيا، وعند صعود الحزب النازي إلى السلطة عام 1933 وبدء تنفيذ قوانين التمييز العرقي، فرت عائلة اباربانيل إلى فرنسا ومنها إلى فلسطين، وغادر هو إلى باريس في العام 1947 وكان قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، حاملاً معه موهبة الرسم حيث هذذبها ونمّاها عبر الدراسة الأكاديمية، وما أن بلغت أخباره “الهاغاناه”، حتى جنّدته في تزوير جوازات السفر واوراق قانونية اخرى ليهود من اوروبا وشمال افريقيا من اجل نقلهم إلى فلسطين في عملية خرق فاضحة لقوانين الهجرة البريطانية التي كانت سائدة في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، وبهذا بدأ اباربانيل مسيرة مهنية طويلة في عالم التجسس.
“بالحيلة تخاض الحرب”
تمكن اباربانيل من تجنيد شبكة كبيرة من الجواسيس في مصر والعالم العربي، وفّرت له جمع معلومات مهمة جدا عن النازيين الذين فروا إلى دول في الشرق الاوسط بحثاً عن الامان بعد انهيار المانيا النازية، ومن ضمن اعماله، بحسب بيرغمان، تزويد رؤسائه بأسماء علماء الصواريخ الالمان الذين حاولوا بيع معلوماتهم للجيوش العربية.
يقول بيرغمان، إنه بعد وقت قصير من تولي ايسر هاريل مسؤولية جهاز “الموساد”، استدعى اباربانيل وطلب منه ان يصمم شعاراً رسمياً لهذا الجهاز، فأغلق اباربانيل باب غرفته على نفسه لأيام قبل ان يخرج حاملا معه مسودة رسم لشعار يتوسطه شمعدان بسبعة رؤوس، هو الشمعدان المقدس لليهود الذي كان في هيكل سليمان عندما دخله الرومان عام 70 قبل الميلاد ودمروه، مع عبارة “بالحيلة تخاض الحرب”، وهذه هي الآية السادسة من الفصل 24 في “كتاب الامثال” الذي تقول الرواية اليهودية الرسمية ان سليمان الحكيم هو من كتبه بنفسه، ولكن هذه الآية استبدلت لاحقاً بالآية 14 من الفصل 11 من الكتاب والتي تقول “حيث لا تستخدم الحيلة تسقط الامة ولكن الامان يكمن في حكمة المستشارين”. من خلال هذا الشعار، كانت رسالة اباربانيل واضحة وهي ان “الموساد” درع الامة اليهودية، يقول بيرغمان.
على خط مواز، كتب هاريل ميثاق “الموساد” الذي حدّد اهداف هذا الجهاز بالعمل السري في جمع المعلومات وتنفيذ عمليات خاصة خارج الحدود ومنع الدول المعادية من حيازة وتطوير اسلحة غير تقليدية ومنع حصول عمليات ارهابية ضد “إسرائيل” وضد اهداف يهودية خارج “إسرائيل” والعمل على تطوير علاقات سياسية واستخباراتية مع الدول التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية، وجلب اليهود من الدول التي ترفض بلدانهم السماح لهم بمغادرتها إلى فلسطين ووضع خطط لحماية اليهود المتبقين في هذه الدول.
مصر مصدر تهديد لإسرائيل
واجهت الاجهزة الامنية والاستخبارية “الإسرائيلية” الفتية تحديات كبرى اهمها كيفية مواجهة حلقة من 21 دولة عربية معادية تحيط بالكيان “الإسرائيلي” وتشكل تهديداً وجودياً له، وكان من ابرز خطط مواجهة هذا الواقع هو تحديد اهداف بعيدة المدى في عمق الخطوط الخلفية لهذه الدول.
يقول بيرغمان انه مقابل “الموساد”، انشأت وكالة “امان” وحدة خاصة اسمتها “وحدة الاستخبارات رقم 13” (يعتبر هذا الرقم جالباً للحظ بحسب التقاليد اليهودية). ويضيف في العام 1951، غادر احد كبار ضباط هذه الوحدة ابراهام دار إلى القاهرة لانشاء شبكة عملاء من الصهاينة المتحمسين الذين كانوا لا يزالون في مصر، وكان يرسل الجواسيس الذين يجنّدهم إلى اوروبا ومنها إلى تل ابيب لتلقي التدريبات على اعمال التجسس والتخريب، ويقول “دار” ان الطريقة التي كان يدير فيها الملك فاروق حكومته “جعلت من مصر مصدر تهديد لإسرائيل، فاذا استطعنا التخلص من هذه العقبة، فان الكثير من مشاكلنا سيحل”، مضيفا أنه “من دون كلب، لا يوجد داء كلب”.
لكن التطورات السياسية التي حصلت في مصر في تلك الفترة اكدت ان لا داعي “للتخلص من الكلب”، يقول بيرغمان، فقد اطاح انقلاب “حركة الضباط الاحرار” (1952) بالملك فاروق وسقطت كل توقعات جهاز “امان” بان الامور ستكون افضل من دونه، غير ان جهاز “امان” كان قد شكّل شبكة لا بأس بها من الجواسيس الذين تم استخدامهم ضد حركة “الضباط الاحرار”. لكن الجهاز مني بكارثة كبيرة عندما تمكنت السلطة المصرية الجديدة من مطاردة العديد من عناصره اثر فشل معظم عمليات التخريب التي كانوا يخططون لها او يحاولون تنفيذها، والقت القبض على 11 عنصراً بعضهم اعدم بعد فترة وجيزة وانتحر احدهم اثر التعذيب القاسي الذي تعرض له، اما المحظوظون منهم فقد نالوا احكاماً بالسجن مع الاشغال الشاقة لاعوام طويلة. اثارت هذه العملية عاصفة من الانتقادات وحولتها إلى نقاشات حامية بين الاحزاب السياسية لاعوام حول ما اذا كان جهاز “امان” قد حصل على اذن مسبق بتنفيذها.
“نحن لا نقتل يهوداً”
يقول بيرغمان ان الدرس الذي تعلمته القيادات الامنية من خلال فشل هذه العملية هو انه يجب الا يتم ابدا تجنيد اليهود المقيمين في دول معادية لان اعتقالهم سيكون اكيدا وسيكون ايضا الموت بانتظارهم. على اي حال، يضيف الكاتب، لم تتغير قناعة القادة الامنيين ان العمل بشجاعة وقوة خلف خطوط العدو من شأنه ان يغير مجرى التاريخ، وقد بقيت هذه المقولة في قلب خطط هؤلاء القادة حتى يومنا هذا.
ينتقل رونين بيرغمان من فشل اولى عمليات “امان” في مصر إلى فشل اولى عمليات “الموساد” في اوروبا، فيقول انه في تشرين الثاني/نوفمبر 1954، فر الكسندر يسرائيلي، النقيب في البحرية الإسرائيلية، من البلاد بعد ارتكابه عمليات تزوير كبيرة للتخلص من ديونه، مستخدماً جواز سفر مزور وحاول ان يبيع معلومات سرية للسفارة المصرية في روما، لكن احد جواسيس “الموساد” في السفارة عرف بالامر وارسل إلى رؤسائه في تل ابيب يخبرهم عن الموضوع، فقرر هؤلاء العمل بسرعة على خطة لخطف يسرائيلي من روما واعادته للمحاكمة بتهمة الخيانة.
يقول الكاتب، لقد كانت هذه العملية اختبارا كبيرا لهاريل واجهزة الاستخبارات، وكان من شأن اي فشل ان يكون قاتلاً لطموحاتهم والعكس صحيح. لذلك، جمع هاريل فريقا من افضل ضباطه في “الموساد” و”الشين بيت” وامرهم بخطف يسرائيلي من روما، واعطى الامرة لابن عمه رافائيل ايتان الذي كان شاباً يافعاً عندما نفذ عملية اغتيال إلمانيين من “ابناء المعبد” في القدس.
ينقل بيرغمان عن ايتان قوله ان بعض الضباط الحاضرين ارتأووا ان يصار إلى ايجاد يسرائيلي في روما وقتله على الفور ولكن هاريل رفض الفكرة بالمطلق، وقال “نحن لا نقتل يهوداً”، ويستطرد بيرغمان هنا بالقول ان موضوع عدم قتل اليهود لليهود هو امر عميق في التقاليد اليهودية لانه يحمل القاتل مسؤولية دينية باعتبار اليهود هم عائلة كبيرة ولا يجوز لافراد العائلة ان يقتل بعضهم بعضا وهذا سبب بقاء اليهود على قيد الحياة على مدى الفي عام بحسب الكاتب. ويتابع ان قتل اليهود الخونة قبل قيام الدولة كان له مسوغه اما بعد ذلك حتى لو كان هؤلاء يشكلون خطرا على امن البلاد لا مسوغ لقتلهم طالما بالامكان محاكمتهم.
رمي الجثة من الطائرة في البحر
في بداية العملية، سار كل شيء على ما يرام، فقد قامت واحدة من جواسيس “الموساد” بايقاف يسرائيلي عند تقاطع “باريس” في العاصمة الايطالية فيما قام ايتان وثلاثة من زملائه الضباط بحقن الضحية بابرة منومة ونقلوه إلى مكان آمن حيث قام احد الاطباء التابعين لـ”الموساد” بحقنه مجددا بمنوم اخر وتم وضعه في صندوق يستخدم لنقل الاسلحة قبل نقله إلى طائرة عسكرية إسرائيلية كانت لديها عدة محطات قبل ان تصل إلى تل ابيب. وكان يسرائيلي يحقن في كل محطة بابرة منوم جديدة لابقائه تحت السيطرة، ولكن ما ان وصلت الطائرة إلى مطار اثينا اليوناني حتى اصيب يسرائيلي بذبحة قلبية وفارق الحياة، وتنفيذا لاوامر هاريل قام احد ضباط “الموساد” برمي الجثة من الطائرة في البحر.
شكلت هذه العملية صفعة كبيرة لهاريل ونظريته في عدم قتل اليهود، يقول بيرغمان، فقام عملاؤه بتزويد الصحافة بمعلومات مغلوطة عن يسرائيلي تقول انه سرق كمية من المال وهرب إلى مكان ما في جنوب امريكا مخلفا زوجته الحامل، وامر هاريل باخفاء كل الوثائق التي لها علاقة بالعملية في واحدة من الخزائن السرية لـ”الموساد”. غير ان الدرس الذي تعلمه هاريل كان انه كانت هناك حاجة ماسة لتشكيل وحدة خاصة تكون مهمتها حصريا القيام بعمليات التخريب والاغتيال والقتل المتعمد، فبدأ البحث عن مقاتلين جيدي التدريب وقساة وعندهم ولاء اعمى ولا يترددوا بالضغط على الزناد عند الضرورة، فوجد ضالته في اخر مكان كان يفكر في البحث فيه، انهم عناصر منظمتي “إرغون” و”ليهي” المنحلتين اللتين حاربهما هاريل بشراسة. ولكن العقبة امام الاستعانة بهؤلاء العناصر كانت ان بن غوريون كان قد اصدر امرا صارما بعدم السماح لعناصر اي من هاتين المنظمتين الانضمام إلى الوظائف الحكومية. وكان جهاز “الشين بيت” يعتبر ان بعض هؤلاء العناصر يشكلون خطرا فعليا على النظام في البلاد اذا ما اتيح لهم اعادة تجميع انفسهم في تنظيم سري.
يضيف بيرغمان ان استعانة هاريل بهؤلاء العناصر جعلته يصيب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة يكون قد انشأ وحدة عمليات خاصة تابعة له، ومن جهة ثانية جعل هؤلاء المقاتلين السريين يعملون تحت امرته خارج حدود البلاد من دون محاسبة، فكان ان استدعى إلى منزله في شمال تل ابيب كلاً من ديفيد شومرون واسحاق شامير ورفاق لهم في منظمتي “إرغون” و”ليهي” وجعلهم يقسمون يمين الولاء في اطار وحدة عمليات خاصة تسمى “ميفراتز” اي الخليج وقد اصبحت هذه الوحدة اول وحدة اغتيال تابعة لـ”الموساد”.
شارون خلف الحدود.. “إتبعوني”
غداة إعلان دولة “اسرائيل”، لم يجد الفلسطينيون الذين جردوا من ارضهم ومنازلهم الا شن حرب عصابات وصفها الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، بـأنها كانت عبارة عن “عمليات ارهابية تستهدف قتل اليهود”، ويقول ان الجيش الاسرائيلي احصى في العام 1952 وحده 16 ألف عملية من هذا النوع، بينها 11 ألفا تمت عن طريق الاردن والباقي عن طريق مصر.
في تلك الفترة، كانت “حركة الضباط الاحرار” في مصر تولت السلطة بعد الانقلاب على الملك فاروق، واصبح الجنرال محمد نجيب اول رئيس للجمهورية المصرية، لكن رجل الدولة القوي حينها كان الضابط الشاب جمال عبد الناصر، صاحب القناعة القومية العربية والمتمسك بحق الفلسطينيين بارضهم وبعدم مشروعية “إسرائيل”، لذلك، اعطى كل الرعاية والدعم لحركة الفدائيين.
يروي الكاتب رونين بيرغمان، وفقا لوثائق الاستخبارات الاسرائيلية، كيف ان المخابرات المصرية كلفت النقيب الشاب مصطفى حافظ مهمة تنظيم حركة الفدائيين الفلسطينيين وتدريبهم لمواصلة كفاحهم. ومع مطلع العام 1953 (اي بعد ستة اشهر من تولي الضباط الاحرار السلطة في مصر)، اطلق حافظ والملحق العسكري المصري في الاردن صلاح مصطفى اوسع عملية تجنيد وتنظيم وتدريب ترجمت بالمئات من عمليات التسلل الى فلسطين عبر قطاع غزة، وتخللها تنفيذ عمليات طاولت بنى تحتية واراض زراعية وزرع الغام وتدمير عربات القطارات حيث احصت المخابرات الاسرائيلية مقتل اكثر من الف مستوطن في هذه العمليات حتى العام 1955 ناهيك عن نشر الخوف والرعب في صفوف المستوطنين.
يقول بيرغمان ان حرب الفدائيين هذه اثبتت نجاحها في تحقيق اهدافها من دون ان تحمل اية بصمات مصرية أو أردنية، فما كان من المخابرات الاسرائيلية الا ان قررت إعتماد الاسلوب نفسه عبر تجنيد مخبرين عرب لصالحها مهمتهم جمع المعلومات عن الفدائيين وقادتهم من اجل تحديد اماكن تواجدهم وحركتهم واغتيالهم، وقد انشئت لهذه الغاية وحدة إستخباراتية خاصة أسميت “الوحدة 504” بامرة ريهافيا فاردي، البولندي المولد والذي سبق له ان عمل ضابطا في استخبارات “الهاغاناه” قبل اعلان “الدولة” (العبرية). وكان فاردي قاسي الشخصية وصاحب مواقف متطرفة، ومن اقواله بحسب بيرغمان “يمكن تجنيد اي عربي عبر واحدة من ثلاث طرق: النساء، المال، او المديح لكبريائه”. تمكن فاردي من تجنيد اكثر من 500 عربي للعمل لدى وحدته التي كان عناصرها من اليهود الذين نشأوا وعاشوا بين الفلسطينيين قبل اعلان “الدولة”، لذلك فقد كانوا يجيدون اللغة العربية ويعرفون جيدا العادات والتقاليد الفلسطينية. وتبعا لشبكة المخبرين العرب تمكنت “الوحدة 504″، كما يقول الكاتب، من تحديد اماكن العديد من قادة الفدائيين واغتيالهم، حتى ان مخبرين (من العرب) شاركوا في وضع عبوات ناسفة لقتل الفدائيين.
وبغرض صنع العبوات الناسفة بطريقة احترافية، انشأت المخابرات الاسرائيلية وحدة خاصة حملت اسم “شايطيت 13” اي “الزورق 13” بقيادة ناتان روتبيرغ، وهو احد الضباط الذين شاركوا في تأسيس الاجهزة الاستخبارية الثلاثة “الموساد” و”امان” و”الشين بيت”. وكان روتبيرغ شخصا غليظ الرقبة وصاحب شارب كث وملامح قاسية. وقد اتخذت وحدته مقرا سريا لها في تل ابيب وكان يحظر على افرادها ان يذكروا اسم وحدتهم او ان يخبروا احدا عما يفعلون او اين يخدمون. وينقل بيرغمان عن روتبيرغ قوله “انا لا اعمل بكراهية ضد اعدائي اذ علينا ان نتعلم كيف نكون متسامحين مع الاعداء، وعلى اية حال ليست مهمتنا مسامحة الاعداء، فهذا عمل الرب وحده ولكن جلّ عملنا تنظيم لقاء اعداءنا مع الرب، وهذه كانت مهمة مختبري”.
ويقول بيرغمان، ان رجال فاردي كانوا يحددون الهدف، فيما يتولى رجال روتبيرغ صناعة العبوات وتمويهها من اجل تنفيذ المهمة، وغالبا ما كانت العبوات توضع في سلال مزدوجة القعر، تكون العبوة في القعر الاول، فيما تُغطى بالفاكهة والخضار الموسمية. يقول روتبيرغ: “كنا نستخدم الاقلام لاطلاق العبوة ولكن هذه التقنية لم تكن دقيقة بما يكفي للتحكم بلحظة تفجير العبوة، فاخذنا نلجأ الى ساعات التوقيت”.
بالرغم من كل هذا التنظيم الاستخباراتي الدقيق، يعترف بيرغمان ان عمل فاردي وروتبيرغ لم يحد من عمليات الفدائيين، لا بل اخذ الضابطان يتلقيا النقد من قيادة الجيش خاصة بعد ان فشل رجالهما عدة مرات في التسلل الى قطاع غزة وسيناء والضفة الغربية والاردن، ما حدا برئيس الوزراء ديفيد بن غوريون دعوة الحكومة المصغرة الى اجتماع سري في 11 يونيو/ حزيران 1953 حيث اقرت توصية وزير الدفاع (بن غوريون نفسه) بالرد على عمليات الفدائيين خلف خط الهدنة المرسوم مع الاردن.
جاءت فرصة بن غوريون لتنفيذ خطته الجديدة عندما قتل الفدائيون حارسين لمستوطنة ايفين سابير قرب القدس في عملية خطّط لها وقادها الفدائي مصطفى صامولي من بلدة صامولي في الضفة الغربية، فكلف بتنفيذ عملية الرد الضابط الشاب آرييل شاينرمان الذي عرف لاحقا باسم آرييل شارون، وكان هذا الضابط تلميذا في الخامسة والعشرين من عمره، لكنه كان سلطويا وشجاعا وقوي البنية ويتمتع بمواصفات قيادية اثبتها خلال الحرب (1948) واصيب خلالها اصابة حرجة. لم يتردد شارون بالموافقة على تنفيذ المهمة الموكلة اليه، بحسب ما ينقل بيرغمان عن جلعاد نجل آرييل شارون.
يقول الكاتب ان شارون وثمانية من رجاله تمكنوا من التسلل الى قريية صامولي في الضفة الغربية حيث فجروا منزل الفدائي مصطفى صامولي لكن استخباراتهم كانت مخطئة في تقديراتها بشأن وجود الهدف في منزله والحراسات الفلسطينية في البلدة، فخاضت مجموعة شارون اشتباكاً نارياً نجت منه باعجوبة من دون خسائر. اعتبرت قيادة الجيش ان العملية ناجحة على عكس شارون الذي عاد منها منهكاً وغير راض عن النتيجة، وقال لرؤسائه ان هذا النوع من العمليات يتطلب جنوداً من نخبة الكوماندوس، فكان له ما اراد وتأسست “الوحدة 101” بقيادته وكانت مهماتها بحسب قواعد عملها التي كتبها شارون نفسه “تنفيذ عمليات عابرة للحدود برجال ذوي تدريب واداء عالي المستوى”.
اطلقت قيادة الجيش لشارون العنان في اختيار رجال وحدته وتدريبهم الذي كان يتضمن التدريب لمدة عام على كل انواع الاسلحة والمتفجرات والطوبوغرافيا والسير ليلا في الاماكن الجبلية الوعرة، وقد ميّز شارون وحدته تدريباً وتسليحاً. كانت البندقية التشيكية سلاح جنود الجيش، بينما حصلت وحدة شارون على رشاش كارل غوستاف الاوتوماتيكي، وكانت اول من استخدم رشاش عوزي الاسرائيلي الصنع والذي كان سرياً في ذلك الحين. وكان شارون شخصيا يتقدم جنود وحدته في تنفيذ عملياتها تحت شعار “اتبعوني”.
تزامن وجود شارون على رأس هذه الوحدة الفتاكة بوجود موشيه دايان على رأس هيئة اركان الجيش، فشاركه الأخير رؤيته الدموية بعدم الاكتفاء بتحديد هوية المسؤولين الفلسطينيين الرئيسيين (المخططين) واصطيادهم بل اعتماد سياسة الانتقام لمقتل اي مستوطن بشن هجمات على القرى والبلدات العربية التي ينطلق منها الفدائيون وترويع اهلها. وينقل بيرغمان عن دايان قوله “لا نستطيع ان نمنع قتل المستوطنين الآمنين في مزارعهم وبيوتهم ولكننا نستطيع ان نجعل قتلتهم يدفعون ثمناً غالياً لدمائهم”.
ووفقاً لهذه النظرية اختار شارون بلدة قيبيا في الضفة الغربية لتنفيذ عملية عقابية للفلسطينيين على خلفية قتل مستوطنة واولادها جنوب شرق تل ابيب، ففي 15 اوكتوبر/ تشرين الاول، قاد شارون 130 من رجال “الوحدة 101” المحملين بكمية كبيرة من المتفجرات واقتحم البلدة ودمر كل منازلها خلال ساعات قليلة. وينقل بيرغمان عن احد الضباط المشاركين في العملية قوله “لقد دمرنا 43 منزلا.. عند عودتنا ذكرنا في تقريرنا عن العملية ان عدد الضحايا من المدنيين بلغ 11 قتيلا فقط”. لكن الحقيقة كانت مختلفة تماما، فقد كانت العملية مجزرة دموية بلغ عدد ضحاياها اكثر من ستين قتيلا معظمهم من النساء والاطفال، ما اثار غضب العالم وادانها مجلس الامن الدولي ووزارة الخارجية الامريكية التي قررت اثرها وقف مساعداتها لاسرائيل لخرقها اتفاقيات الهدنة الموقعة عام 1949، يقول بيرغمان. أبدى بن غوريون دعمه لشارون في هذه العملية. اما شارون نفسه فقد قال في تعليقه على العملية انها ومثيلاتها “ساهمت في حماية امن حدود اسرائيل”.
يقول بيرغمان انه بعد خمسة اشهر على تأسيس “الوحدة 101” في العام 1954، دمج موشيه دايان هذه الوحدة مع “لواء المظليين”، واصبح شارون احد قادة الكتائب فيه، وكان موشيه ديان يعتقد ان هذه الوحدة تشكل نموذجا في التدريب والانضباط والكفاءة والالتزام وان باستطاعة شارون تعميم النموذج في اللواء وبعده في كل وحدات الجيش.
وينهي الكاتب هذه الصفحات من كتابه بالقول إنه في احدى المرات وبينما كانت، مائير هار صهيون، شقيقة احد الضباط المعروفين في “الوحدة 101” تمارس هواية المشي في الجبال الوعرة في منطقة غير مسموح الدخول إليها عبر الحدود الاردنية، قتلت مع اثنين من رفاقها على ايدي البدو الاردنيين. بتشجيع ودعم كاملين من شارون قام شقيق القتيلة (هار صهيون) بالتسلل الى موقع الحادثة وانتقم لشقيقته بقتله بالسكاكين اربعة رعاة بدو، فامر احد حمائم السياسة الاسرائيلية موشيه شاريت بان يحال هار صهيون إلى المحاكمة العسكرية، ولكن دايان وشارون وبدعم من بن غوريون اسقطا الامر. وكتب شاريت في تعليقه على العملية متسائلا “اتساءل كيف سيكون قدر هذه الامة وطبيعتها وهي التي تملك هذه الروح الطيبة والحساسة والحب للانسانية من جهة، ومن جهة ثانية تنتج من بين صفوف شبيبتها اليافعين شباناً يستطيعون قتل الناس بدم بارد وصفاء ذهن عبر غرز سكاكينهم في اجساد شبان ابرياء لا حول لهم من البدو، اتساءل اي من هاتين الروحيتين التي يتحدث عنهما التوراة في صفحاته ستنتصر ضد الاخرى في هذه الامة”.
كتابان مفخخان من الموساد.. يصرعان ضابطين مصريين
يقول رونين بيرغمان انه في منتصف خمسينيات القرن الماضي كان الضابط المصري مصطفى حافظ (مسؤول المخابرات المصرية في غزة) يحقق انتصارات كبيرة على “الاستخبارات الاسرائيلية” من خلال حرب الفدائيين، وراح يتردد اسم حافظ في كل التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية عن الهجمات الفدائية، ولكن بحسب احد ما يقول احد القادة الميدانيين في “الاستخبارات الاسرائيلية” ياكوف نمرودي “كنا نعرف ان حافظ شاب في الثلاثين من العمر بهي الطلعة وصاحب كاريزما قوية وكان الاسرى لدينا يتكلمون عنه بإعجاب شديد، وكنا نعتبر حافظ من افضل العقول الاستخباراتية المصرية”. ويضيف نمرودي، الذي كان نظير حافظ على الجانب “الاسرائيلي”، ان حافظ “تمكن من القبض على العديد من عملائنا وتصفيتهم او انه حولهم الى عملاء مزدوجين عبر المعاملة الطيبة التي كانوا يعاملهم بها. وفي حرب العقول هذه كان النصر فقط للافضل”. ويضيف بيرغمان، نقلا عن نمرودي “كان حافظ رأس الافعى الذي كان علينا ان نقطعه”.
كانت هناك ثلاثة اسباب تحول دون قتل حافظ، بحسب ما ينقل بيرغمان عن ابراهام دار، الذي كان حينها ضابطا برتبة رائد في جهاز “امان” الاستخباراتي والذي كلف بجمع المعلومات عن حافظ. “اولاً، صعوبة جمع المعلومات الكافية عن حافظ وتحركاته ومكان اقامته، ثانياً، صعوبة الوصول اليه وقتله، ثالثاً، فان حافظ كان ضابطا بارزا في جيش دولة ذات سيادة ومن شأن قتله ان يعتبر تجاوزا للخطوط الحمر في العلاقة مع مصر وقد يؤدي الى تدهور الامور الى المجهول”.
ويقول بيرغمان ان كل محاولات الامم المتحدة لوقف حرب الفدائيين عبر التوسط بين “اسرائيل” ومصر وصلت الى حائط مسدود، وواصل الفدائيون بدعم من حافظ هجماتهم طوال عام 1955 الى ربيع العام 1956. وفي 29 نيسان/ابريل من ذلك العام، تمكن الفدائيون من قتل الملازم الشاب في الجيش “الاسرائيلي” روي روتبيرغ الذي كانت مهمته حراسة كبيوتز ناحال عوز عند الحدود الجنوبية، ويضيف بيرغمان ان الفدائيين لم يكتفوا بقتل روتبيرغ بل اقتلعوا عينيه وسحبوا جثته الى خط الحدود كي يبدو ان قتله تم بعد ان اجتاز تلك الحدود المرسومة من الامم المتحدة.
نزل مقتل روتبيرغ على رئيس اركان الجيش موشيه دايان نزول الصاعقة، اذ انه كان قد التقى به قبل يوم واحد من مقتله خلال جولة له على المستوطنات الجنوبية، فوقف دايان في اليوم التالي امام حفرة قبر روتبيرغ وقال ما يمكن ان يلخص التوجه “الاسرائيلي” للتعامل مع الفلسطينيين في الاعوام المقبلة. قال دايان “دعونا اليوم لا نلوم القتلة، فمن نحن لنناقش اسباب كراهيتهم لنا؟ لثماني سنوات هم يعيشون في مخيمات للنازحين في قطاع غزة ينظرون باعينهم الى الاراضي والقرى التي ولدوا ونشأوا فيها هم واباؤهم وهي ارض اجدادنا. نحن جيل المستوطنين، من دون الخوذ الحديدية وهدير المدافع لن نستطيع ان نزرع شجرة او نبني بيتا على هذه الارض، ولن يستطيع اولادنا العيش من دون ان نحفر ملجأ ومن دون اسلاك شائكة وبنادق رشاشة لن نستطيع ان نعبد طريق او ان نحفر بئر ماء. ان ملايين اليهود الذين همشوا لانه لم يكن لديهم وطن، هؤلاء ينظرون الينا من تحت التراب عبر التاريخ العميق ويأمروننا ان نستوطن ونبني وطنا لشعبنا”.
وفيما كان دايان يلقي كلمته هذه، كان يقف الى جانب القبر ناتان روتبيرغ وهو قائد وحدة “شايطيت 13” المتخصصة بتصنيع العبوات الناسفة والمتفجرات، وهو ابن عم الضابط القتيل. بعد الانتهاء من مراسم الدفن، اقترب ناتان من عمه شمارياهو ووعده بان ينتقم لولده، وكان هذا الامر محط تأييد من دايان نفسه الذي تمكن من اقناع رئيس الحكومة ديفيد بن غوريون ليس فقط بشن عمليات انتقامية ضد القرى الفلسطينية بل ايضا باصدار الامر بعملية اغتيال مزدوجة تطال الضابطين المصريين حافظ وصلاح. وكان ذلك يعني “تصعيدا غير مسبوق”، بحسب رونين بيرغمان، واضاف ان ابراهام دار هو من كتب الامر العملياتي لهذه المهمة تحت اسم “عملية اونوخ”، وقد كان هذا اول امر بالاغتيال المتعمد يكتب ويباشر بتنفيذه في تاريخ “دولة اسرائيل”.
وينقل بيرغمان عن ابراهام دار قوله “كان يتضمن الامر وضع عبوات ناسفة للضابطين المذكورين وكان واضحا لدينا ان قتل حافظ يتطلب ان يقدم له العبوة شخص يثق به”، فوقعت اعين المخبرين الاسرائيليين على محمد الطلالقة، وهو شاب بدوي يعيش في قطاع غزة ويعمل كعميل مزدوج لدى حافظ ووحدة “شايطيت 13” من دون معرفة حافظ بان عميله يعمل لدى الاسرائيليين ايضا، فقرر مشغلو الطلالقة ان يسلموه رزمة ما ليسلمها لحافظ شخصيا، ولكن بقي السؤال ماذا يجب ان تكون اهمية هذه الرزمة حتى يتسلمها حافظ شخصيا وليس احد مساعديه؟ تقرر ان تكون هذه الرزمة عبارة عن كتاب يتضمن كل حلول الشيفرة والمورس التي يستخدمها الاسرائيليون.
ينقل بيرغمان عن ناتان روتبيرغ قوله للمخابرات “الاسرائيلية” انه اذا تم تأمين تأمين كتاب سميك الى حد ما، فانه بمقدوره زرع عبوة فيه بزنة 300 غرام من المتفجرات، وهي كمية اكثر من كافية لقتله اذا انفجرت بين يديه. وقد نجحت العملية نجاحا باهرا، ففي 11 تموز/يوليو 1956، عبر الطلالقة الحدود وتوجه مباشرة الى مقر قيادة الاستخبارات العسكرية المصرية في غزة، وقدم الرزمة بحماسة كبيرة لحافظ. وعندما فضّ حافظ غلاف الرزمة، وقعت منه ورقة على الارض وما ان انحنى ليلتقطها حتى انفجرت الرزمة بين يديه متسببة له بجروح قاتلة، فصرخ وهو يهوي ارضا “قتلتوني يا كلاب”.
يقول بيرغمان انه في اليوم التالي للعملية ذهب ناتان روتبيرغ، وهو بكامل لباسه العسكري الى منزل عمله شمارياهو وقال له “لقد انهيت لك حسابك مع مصطفى حافظ”، ويضيف نقلا عن روتبيرغ “سقطت دمعة من عين عمي وشكرني ليلتزم بعدها الصمت”.
ويضيف الكاتب ان قتل حافظ شكل احراجا كبيرا للمصريين لما تضمنه من خلل استخباراتي فكتبت صحيفة “الاهرام” في اليوم التالي لوفاة حافظ خبرا صغيرا يقول “الكولونيل مصطفى حافظ الذي يعمل في قطاع غزة قتل بانفجار لغم ارضي بسيارته، لقد كان احد ابطال الحرب في فلسطين التي حارب من اجل تحريرها، وقد سجل التاريخ اعماله البطولية وكان اسمه يثير الذعر والخوف في قلوب الاسرائيليين”.
في اليوم نفسه الذي قتل فيه حافظ، وفي وقت متقارب استلم مسؤول المخابرات المصرية في الضفة مصطفى صلاح بالبريد نسخة من كتاب “اوختنج بانزر”، لمؤلفه هاينس غودريان احد ابطال حرب الدبابات الالمان، وقد اختار ابراهام دار هذا الكتاب لمعرفته انه سيثير شهية مصطفى لمعرفته بالاهمية الاستراتيجية للكتاب. ويشرح كيف تم ارسال الكتاب الى مصطفى من دون ان يثير شكوكه بشأن مصدره، فيقول ان اثنين من عملائه دخلا الى القدس الشرقية خلسة (كانت لا تزال تحت الحكم الاردني) وارسلا الكتاب بالبريد مع الختم البريدي الاردني عليه، ولم يكن صلاح يعلم بعد باغتيال حافظ، ففتح الكتاب الذي انفجر بوجهه على الفور وادى الى اصابته اصابات بالغة تسببت بوفاته في المستشفى لاحقا. سارع موشيه دايان إلى الترحيب بنتائج عمليتي القتل واقام لهذه المناسبة حفلاً في حديقة منزله للاحتفال بقتل الضابطين المصريين حافظ وصلاح.
إسرائيل وطائرة عامر.. وخطاب خروتشوف
يقول الصحافي الاسرائيلي رونين بيرغمان، إن اغتيال ضباط المخابرات المصرية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية شكّل ضربة كبيرة مزدوجة لكل من مصر والعمل الفدائي في فلسطين، ولكن هذه الهجمات لم تكن هي السبب الوحيد لتراكم الغيوم السوداء في سماء “الأمن الإسرائيلي”.
في 26 يوليو/ تموز من العام 1956، اعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر، تأميم قناة السويس، الشريان المائي الحيوي بين البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر والذي تمر عبره امدادات النفط الخليجي الى العالم وكانت الشركات المشغلة لهذا الشريان مملوكة لمواطنين انكليز وفرنسيين، وبطبيعة الحال، فقد اثارت خطوة عبد الناصر غضب الدولتين الإنكليزية والفرنسية، فيما رأت “اسرائيل” فيه فرصتها لضرب طموحات عبد الناصر العروبية من جهة وانهاء تهديده لها بعدم استخدام القناة لمرور سفنها من جهة اخرى.
يضيف بيرغمان، عند هذه النقطة تلاقت المصالح بين “اسرائيل” وكل من فرنسا وبريطانيا، وقد رأى فيها المدير العام الشاب والمليء بالحيوية لوزارة الدفاع “الاسرائيلية” في ذلك الحين شيمون بيريز الفرصة لوضع خطة حرب طموحة على مصر تبدأ بشن هجوم على شبه جزيرة سيناء يكون مبرراً لتدخل فرنسي ـ إنكليزي بذريعة حماية الممر المائي، وباشر فورا تنفيذ خطته بالتواصل الاستخباراتي مع البلدين الاوروبيين اللذين تعهدا له بتأمين غطاء جوي للقوات “الاسرائيلية” المهاجمة.
وقبل وقت قصير من اليوم المقرر للهجوم “الاسرائيلي”، يقول بيرغمان أن جهاز الاستخبارات “امان” علم ان رئيس اركان الجيش المصري المشير عبد الحكيم عامر سيغادر القاهرة على رأس وفد من كبار القادة العسكريين المصريين الى دمشق، وهذا الأمر شكّل فرصة كبيرة لم تكن منتظرة عند “الاسرائيليين”، فبضربة واحدة بالامكان القضاء تقريبا على كل القيادة العسكرية المصرية، وحظيت هذه الخطة بتأييد رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ورئيس الاركان موشيه دايان. وهكذا، بدأت القوات الجوية “الاسرائيلية” سلسلة تدريبات ليلية مكثفة لاعتراض الطائرة المصرية التي تقل الوفد لاسقاطها بطريقة توحي بانها سقطت جراء عطل فني كي لا تتحمل “اسرائيل” مسؤولية الهجوم.
وقبل ايام قليلة من الموعد المقرر لزيارة عامر الى دمشق، كلّف جهاز “امان” وحدة من سلاح الاشارة لديه تحديد المسار الجوي لرحلة الوفد المصري في طائرتين من نوع اليوشين-14 (تحمل هذه الوحدة اليوم اسم “الوحدة 8200”). على الفور حدد عشرون شابا لا تتجاوز اعمارهم الخامسة والعشرين من فنيي هذه الوحدة الاشارة اللاسلكية التي ستستخدمها الطائرات المصرية ورسموا خطة عزلها وتناوبوا على ليلا نهارا على مراقبة هذه الاشارة في مقر قيادة وحدتهم في مستوطنة “رامات هاشاروم” شمال تل ابيب، ووضعت القيادة العسكرية “الاسرائيلية” ضغوطا هائلة عليهم لان القوات البرية كانت على اهبة الاستعداد للبدء بهجومها على شبه جزيرة سيناء المقرر في 29 اكتوبر/تشرين الاول ما ان تسقط الطائرتان، حيث سيصبح الجيش المصري تقريبا بلا قيادة عسكرية. وكان الوقت يمر ببطء قاتل عندما سمع عناصر وحدة التنصت “الاسرائيلية” اشارة طائرتي الاليوشن بالانطلاق في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم 28 اكتوبر/تشرين الاول. وتولى قيادة هذه العملية الحساسة ضابط سلاح الجو “شاتو بيرغر”، وهو احد اكفأ ضباط هذا السلاح. في الساعة الثامنة مساء علم سلاح الاشارة “الاسرائيلية” ان طائرة واحدة غادرت المطار واعرب عناصر السلاح عن اعتقادهم ان كل اعضاء الوفد المصري على متن هذه الطائرة فصدر الامر بالمباشرة بتنفيذ العملية.
ما ان صدر القرار بالبدء بتنفيذ العملية، حتى تسلق الضابط “شاتو” طائرته من نوع “ميتيور ام كا 13” وانطلق في الجو مع ملاحه “شيفي بروش”. كان الظلام حالكا في تلك الليلة، ارتفع “شاتو” بطائرته الى علو عشرة الاف قدم وثبت في موقعه وما هي الا دقائق حتى اعطاه الرادار اشارة عن اقتراب طائرة منه. اقترب “شاتو” من الطائرة الى درجة انه كان يرى من خلال نوافذها عناصر الوفد المصري بلباسهم العسكري يتجولون بين المقاعد، فأرسل الى الارض تأكيده ان هذه الطائرة هي التي تم التخطيط لاستهدافها وطلب الاذن بضربها، وما ان اتاه الرد بالموافقة، حتى امطر مقدمة طائرة الاليوشين من رشاشات طائرته الاربعة من عيار عشرين ميلليمتر، فاعمت النيران التي اندلعت فيها على الفور عيونه لا سيما عندما انفجرت الطائرة المصرية وبدأت قطعها تهوي في البحر، فصرخ عبر جهاز اللاسلكي “نلت منه”. فجاءه السؤال من البر هل تؤكد تحطم الطائرة وسقوطها فاجاب “بالتأكيد”. فتلقى “شاتو” تهنئة مباشرة من رئيس الاركان موشيه دايان بعد ان كان قائد سلاح الجو “دان تولوفسكي” قد نقل اليه الخبر، ولكن الاستخبارات الاسرائيلية كانت قد أبلغت دايان ايضا ان المشير عامر كان قد قرر في اللحظات الاخيرة ان ينتظر الطائرة الثانية للمغادرة فلم يكن على متن الطائرة التي قصفت، وهذا ما اعلمه دايان لـ”شاتو”، فقال له الاخير انه على الاستعداد للعودة والتزود بالوقود لضرب الطائرة الثانية ولكن دايان رفض الفكرة، وقال ان ذلك سيشير بشكل واضح الى دورنا في العملية وسيكشف عميلنا في الجانب المصري، لذلك فلندع عبد الحكيم عامر حياً.
يقول بيرغمان، لا شك ان هذه العملية كانت احد اكبر انجازات الاستخبارات الجوية وقد اطلق عليها الذين شاركوا فيها اسم “عملية اسقاط هيئة الاركان المصرية”، ولا شك ايضا ان الفوضى التي احدثتها هذه العملية في القيادة المصرية شكلت عاملا حاسما في ما اسماه “الاسرائيليون” النصر في الهجوم البري الذي انطلق في اليوم التالي. ويضيف بيرغمان، بمعزل عما اذا كان تأثير هذه العملية كبيرا كما يزعم هؤلاء، فان جيش الدفاع شق طريقه بسهولة في اليوم التالي مجتاحا قوات الجيش المصري ومظهرا للعالم ان “الدولة اليهودية” قد اصبحت قوة مقاتلة لا يستهان بها في المنطقة وجعل بن غوريون المغمور بالسعادة يرسل الى الضباط والجنود الذي شاركوا في العملية رسالة يتحدث فيها عن “مملكة اسرائيل الثالثة”.
من الواضح ان بيرغمان يهمش دور المملكة المتحدة وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ويظهر وكأن الحرب في تلك الايام كانت فقط بدور اسرائيلي ولكن الحقيقة انه بغطاء عسكري جوي فرنسي وإنكليزي ضخم هو الاكبر بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الجيش “الاسرائيلي” هجومه البري تماما في الموعد المحدد فتقدمت قواته لتجتاح بسهولة قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وعندما ثبت “الاسرائيليون” احتلالهم للقطاع ارسل “ريهافيا فيردي” البعض من عناصر الوحدة 504 لتفتيش المبنى الذي كانت تتخذه الاستخبارات المصرية مقرا لها حيث قتل قبل اشهر ضابط الاستخبارات مصطفى حافظ وعثروا هناك على كنز من المعلومات لا يقدر بثمن. اذ وجدوا ملفات فات رجال الاستخبارات تلفها قبل رحيلهم على عجل وكانت هذه الملفات تتضمن اسماء كل الفلسطينيين الذي كانوا يعملون تحت امرة حافظ لخمس سنوات قبل غزو سيناء. وكانت هذه الملفات المصرية بمثابة لائحة اغتيال بالنسبة لفيردي الذي طلب موافقة دايان للبدء بحملة اغتيال واسعة لهؤلاء الفلسطينيين، وبدوره، حصل دايان على موافقة بن غوريون على اطلاق حملة الاغتيالات، فاصدر فيردي امره لقائد وحدة المتفجرات ناتان روتبيرغ ورجاله بالبدء بالتنفيذ.
يقول بيرغمان: لقد تمكن رجال روتبيرغ في الفترة الممتدة من نوفمبر/تشرين الثاني 1957 الى مارس/اذار 1958 (اي خلال خمسة اشهر)، من قتل ثلاثين فدائيا فلسطينيا من الذين وردت اسماؤهم في ملفات المخابرات المصرية في قطاع غزة، وقد استخدموا في عمليات الاغتيال كل ما يمكن ان يخطر على البال من سلال الخضار والفواكه الى ولاعات السجائر وقطع المفروشات. وينقل بيرغمان عن فيردي قوله تعليقاً على عمليات القتل المتعمد هذه “لقد شكلت انتصارا تكتيا لنا ولكنه لم يكن انتصارا استراتيجيا لان كل من جرى قتله استبدل بسرعة وبسهولة”.
ما بدا انه انتصار للمؤامرة السرية “الاسرائيلية” الانكليزية الفرنسية، تحول الى كارثة دبلوماسية عالمية، فقد اجبرت الولايات المتحدة الامريكية “اسرائيل” على الانسحاب من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء فيما انكفأ الفرنسيون والانكليز عن المنطقة وتقبلوا واقع خسارتهم لقناة السويس. وادت هذه النتيجة الى اظهار عبد الناصر منتصرا على قوتين اوروبيتين كبيرتين وحولته الى بطل يقود العالم العربي، علما ان عبد الناصر وافق على السماح للسفن الاسرائيلية بعبور القناة وبوقف دعمه لعمليات الفدائيين الفلسطينيين في قطاع غزة، على حد تعبير بيرغمان.
وللدلالة على ما وصلت اليه الاستخبارات “الاسرائيلية” من كفاءة، يقول بيرغمان انه بعد وفاة زعيم الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين وتولي خلفه نيكيتا خروتشوف منصب الامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، القى الاخير كلمة سرية في المؤتمر العشرين للحزب في موسكو تحدث فيها بصورة واضحة عن الجرائم التي ارتكبها سلفه، وقد جهد عملاء كل اجهزة الاستخبارات السرية الغربية للحصول على النص الحرفي للكلمة وفشلوا، غير ان عملاء الاستخبارات “الاسرائيلية” نجحوا في الحصول عليها وامر رئيسها “ايسر هاريل” بارسال نسخة من الكلمة الى رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية “سي اي ايه” الان دالاس الذي قدمها بدوره الى الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور الذي امر بدوره بتسريب الكلمة الى صحيفة “نيويورك تايمز” ما اثار عاصفة سياسية عالمية واثار احراجا كبيرا للاتحاد السوفياتي. وشكلت هذه العملية إحدى مقدمات ولادة تعاون سري بين اجهزة الاستخبارات السرية الامريكية و”الاسرائيلية”. وقاد هذا التعاون من الجانب الامريكي رئيس جهاز مكافحة التجسس في “السي اي ايه” جيمس جيسوس انكلتون الذي كان ممسوسا بهاجس وجود جاسوس سوفياتي تحت كل سرير في بلاده، بحسب ما يقول بيرغمان، والذي كان ايضا من اكثر الداعمين لدولة “اسرائيل”. وعبر قناة التعاون المتمثلة بهاريل انكلتون، حصلت “السي اي ايه” على كمية كبيرة من المعلومات الاستخبارية في الشرق الاوسط ولا تزال تحصل عليها حتى يومنا هذا.
ويقول بيرغمان في كتابه ان الراحة النسبية من شن الحروب التي قدمتها “حملة سيناء” ساهمت الى حد كبير في اعادة اطلاق الاستخبارات الاسرائيلية حملتها ضد المسؤولين النازيين في العالم وكان من نتيجتها في العام 1960 رصد ادولف ايخمان وهو احد كبار قادة جهاز “اس اس” الاستخباري النازي ومطاردته في العاصمة الارجنتينية بيونس ايرس حيث كان يعيش منذ عشرة اعوام تحت اسم ريكاردو كليمانت.
ويروي بيرغمان تفاصيل عملية تشبه افلام جيمس بوند نفذها فريق كبير من الاستخبارات “الاسرائيلية” بقيادة رئيسها ايسر هاريل، وبامر من بن غوريون شخصيا، في احد شوارع بيونس ايرس حيث جرى خطف كليمانت وتهريبه بطائرة “عال” الى تل ابيب حيث حوكم واعدم.
صواريخ مصر تقلق بن غوريون.. فيأمر بقتل علماء ألمان
يتابع الصحافي الاسرائيلي رونين بيرغمان الكشف عن فصول من الحرب السرية بين مصر وإسرائيل في خمسينيات القرن المنصرم وكيف خطط الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتجنيد علماء المان سابقين من اجل تحديث ترسانة مصر الصاروخية، وكيف واجه “الموساد” هذه الخطة باستباحة القارة الاوروبية لخطف وقتل العلماء الالمان.
يقول رونين بيرغمان في كتابه “في 21 يوليو/تموز عام 1962، استيقظ الاسرائيليون على اسوأ كوابيسهم، فقد نشرت الصحف المصرية تقارير عن نجاح اختبارات اطلاق نوعين من صواريخ ارض-ارض اسمتهما “الظافر” و”القاهر”، وجرى استعراض هذه الصواريخ مزنرة بالعلم المصري في احتفال رسمي حضره عبد الناصر وثلاثمئة دبلوماسي اجنبي على ضفاف نهر النيل في القاهرة، وقال عبد الناصر في الاحتفال ان بلاده باتت قادرة على ضرب اي هدف جنوب العاصمة اللبنانية بيروت”. يضيف بيرغمان ان القلق عند “الاسرائيليين” تضاعف في الاسابيع التالية عندما تأكد لهم ان فريقا من العلماء الالمان لعبوا دورا اساسيا في تطوير الصواريخ المصرية، وقد شكل ذلك خطرا وجوديا جديدا لليهود بعد 17 عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شهدت مجازر الهولوكوست، لقد اصبحت اسلحة الدمار الشامل في ايدي الد الاعداء الجدد لاسرائيل، جمال عبد الناصر، الذي كانت تنظر اليه القيادة “الاسرائيلية” على انه “هتلر الشرق الاوسط”. وقد وصفت الصحافة “الاسرائيلية” الامر بالقول ان المسؤولين النازيين السابقين يساعدون عبد الناصر في مشاريع الابادة الجماعية التي يعد لها.
لقد شكل واقع التجارب الصاروخية المصرية الناجحة صدمة في عالم الاستخبارات “الاسرائيلية” كي لا نتحدث عن القوى السياسية والرأي العام في “اسرائيل”، بحسب قول بيرغمان، اذا ان المعلومات عن هذا الموضوع لم تصل الى “الموساد”، الا قبل ايام قليلة من الاعلان المصري، ما شكل فشلا استخباريا ذريعا لـ”الموساد”. الاسوأ في الامر ان العلماء الالمان الذين طوّروا الصواريخ المصرية لم يكونوا مجرد فنيين بل ان بعضهم كان من ابرز المهندسين في النظام النازي، وقد عملوا خلال الحرب العالمية في مركز ابحاث الماني في قاعدة “بينينموند” الواقعة في شبه جزيرة في بحر البلطيق حيث جرى تطوير معظم اسلحة الرايخ الثالث.
وينقل بيرغمان عن مدير عام وزارة الدفاع، حينذاك، آشر بن ناتان قوله “لقد شعرت وكأن السماء تقع فوق رؤوسنا وقد تحدث عن الامر ديفيد بن غوريون شخصيا مرارا وتكرارا مؤكدا انه لا ينام الليل بسبب الكوابيس التي تنتابه من هذا الامر، فكيف له كأول رئيس وزراء ان يأتي باليهود من انحاء مختلفة من اوروبا لكي يواجهوا كابوس الهولوكوست ثانية فوق ارض بلدهم هذه المرة”.
لقد دفع هذا الامر رئيس “الموساد” ايسر هاريل الى اعلان حالة طواريء استخباراتية شاملة في كل زاوية في مقر الوكالة، وبدأت البرقيات تتطاير الى كل محطات “الموساد” في اوروبا لجمع كل ما امكن من المعلومات عن الالمان الذين شاركوا في مشروع عبد الناصر وامكانية تجنيدهم للعمل مع العملاء الاسرائيليين، حتى لو اقتضى الامر استخدام القوة معهم. على الفور، بدأ عملاء “الموساد” العمل على خرق البعثات الدبلوماسية المصرية في اوروبا لتصوير ما لديها من وثائق، ومن ضمن هذه العمليات تجنيد عامل سويسري في الخطوط الجوية المصرية في زيوريخ، اتاح لعملاء “الموساد” الإستحصال على حقائب البريد الدبلوماسي المصري ليلا مرتين في الاسبوع، حيث كانوا يأخذون الحقائب الى مكان آمن في المدينة ويقومون بفتحها وتصوير محتوياتها من وثائق، قبل ان يعيدوا اغلاقها بطريقة احترافية تحول دون معرفة انها سبق ان فتحت، ويعيدوها الى مقر الخطوط الجوية المصرية في الليلة نفسها. لقد ادى ذلك بعد فترة وجيزة الى ان يكوّن “الموساد” فكرة عن برنامج الصواريخ المصرية وكل القيمين عليه من اجانب ومصريين.
وتبين لجهاز “الموساد” من خلال تلك الوثائق، يقول بيرغمان، ان من اطلق مشروع تطوير الصواريخ المصرية هما العالمان الالمانيان الدكتور ايوجين سانجر وولفاغنج بيلتز اللذان كان لهما الدور الاساس خلال الحرب العالمية الثانية في مركز الابحاث التابع للجيش الالماني في قاعدة “بينينموند”. وقد انضم هذان العالمان في العام 1954 الى مركز ابحاث فيزياء الدفع النفاث في مدينة شتوتغارت الالمانية الذي ترأسه سانجر نفسه، فيما تولى بيتلز رئاسة اقسام المركز ومعه عالمان ألمانيان خدما في صفوف الجيش الالماني، هما الدكتور بول غورسكي والدكتور هانس كراغ. وقد شعرت هذه المجموعة من العلماء انها لم تنل ما تستحقه من مراكز عمل ومستحقات مالية بعد الحرب العالمية، فلجأ افرادها في العام 1959 الى التواصل مع النظام المصري وعرضوا خدماتهم لتطوير برنامج صواريخ ارض-ارض البعيدة المدى. وافق عبد الناصر على تجنيدهم وعيّن احد اقرب مستشاريه العسكريين الجنرال عصام الدين محمود خليل لتنسيق البرنامج والانطلاق به، وكان هذا الجنرال مديرا للمخابرات الجوية المصرية.
انشأ الجنرال خليل قسما خاصا لهذا البرنامج كان منفصلا عن منظومة الامرة والقيادة للجيش المصري، وبدأ وصول الدفعة الاولى من العلماء الالمان الى مصر في نيسان/أبريل من العام 1960، وفي اواخر ذلك العام كان كل من سانجر وبيلتز وغورسكي قد تموضعوا في مصر ومعهم 35 عالما وفنيا المانيا. وتضمن المجمع الذي عاشوا فيه حقول اختبار ومختبرات واماكن سكنية فاخرة اضافة الى رواتب خيالية وبقي الدكتور هانس كراغ في المانيا حيث انشأ شركة تجارة دولية كانت عبارة عن غطاء اوروبي لتزويد مجموعة مصر بما تحتاجه من معدات ومواد.
ويقول بيرغمان انه كلما كانت المعلومات تتدفق الى مقر “الموساد” عن عمل هذه المجموعة، كلما كان الهلع يزداد لدى قادة “الموساد”، ففي 16 اغسطس/اب من العام 1962، حصل عملاء “الموساد” من الحقائب الدبلوماسية المصرية على رسالة موقعة من العالم الالماني بيلتز نفسه تعدد كل القطع التي يحتاج الى ان يستحصل عليها فريق العلماء لصناعة 900 صاروخ للجيش المصري، ويضيف ان هذه الوثيقة اوقعت قادة “الموساد” في حالة من الذعر لان هذا العدد من الصواريخ كان هائلا بالنسبة إليهم وما كان اسوأ من هذا الرقم هو ما تضمنته الوثيقة عن تزويد الصواريخ برؤوس مشعة وكيميائية. وقد استدعى ذلك دعوة بن غوريون الى اجتماع عالي المستوى سأل فيه ايسر هاريل عن خطته لمواجهة الامر. فكان رد الاخير انه طالما ان المشروع الصاروخي لم يصل الى درجة الانتاج، فهو يحتاج الى العلماء الالمان. كانت خطته تقضي بان يخطف او يقتل هؤلاء العلماء الالمان للحؤول دون نجاح المشروع.
وفي نهاية شهر اغسطس/اب، سافر هاريل في جولة اوروبية لوضع خطته موضع التنفيذ، ولما فشلت كل مساعي عملائه في تحديد مكان اقامة بيلتز، قرر هاريل ان يركز عمله ضد العالم كراغ. ويروي بيرغمان تفاصيل مثيرة عن عملية خطف كراغ قائلا انه في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الاثنين في العاشر من سبتمبر/ايلول 1962 اتصل هاتفيا شخص بالعالم كراغ في منزله وقدم نفسه على انه يدعى (قاهر صالح)، وقال انه يتكلم نيابة عن العقيد سعيد نديم كبير مساعدي الجنرال محمود خليل، وقال له ان العقيد نديم الذي يعرفه كراغ شخصيا يود اللقاء به بخصوص امور مهمة جدا، وكان صالح يتحدث بلغة ودودة جدا، وقال له انه يقيم فندق “امباسدور” في ميونيخ وان الامر الذي يود العقيد نديم ان يحدثه به يتضمن صفقة تدر على كراغ ارباحا كبيرة ولا مجال لمناقشتها في مقر الشركة التي يتولى رئاستها بسبب طبيعتها الخاصة.
لم ير كراغ ما يثير الريبة في الموضوع وقَبِلَ دعوة صالح للقاء، ولكن الاخير لم يكن سوى احد عملاء “الموساد” القدماء ويدعى “عيديد” وهو من مواليد العراق، وقد درس في مدارس بغداد الى جانب المسلمين وتعلم كل تقاليد حياتهم ناهيك عن تمكنه من اللغة العربية بصورة جيدة، وكان ناشطا سريا صهيونيا هناك حتى العام 1949 حين فر من العراق قبل وقت قليل من اكتشافه ومحاولة القبض عليه، وقد عمل بعدها مع “الموساد” في عمليات عديدة ضد اهداف عربية.
إتفق “عيديد” اتفق مع كراغ ان لاقيه في مقر الشركة في اليوم التالي حتى يأخذه الى الفيلا التي يقطن فيها العقيد نديم خارج المدينة، وهذا ما حصل، اذ جاء “عيديد” في اليوم التالي الى مقر الشركة بسيارة تاكسي من نوع “مرسيديس”، وكان كراغ سعيدا بمجيئه من دون ان يراوده ادنى شك بهويته الحقيقية الى درجة انه طلب منه ان يدخل الى مكاتب الشركة، حيث قدمه إلى الموظفين قبل ان يغادرا معا بالتاكسي. وينقل بيرغمان عن “عيديد” قوله “كانت هناك كيمياء بيننا عندما كنت اطري على شخصيته خلال تبادلنا الحديث في السيارة وكنت اقول له اننا في المخابرات المصرية نقدر عاليا خدماته واسهاماته في ما اخذ هو يخبرني بدوره عن المرسيديس الجديدة التي إقتناها”.
وصلت السيارة الى الفيلا التي كان يفترض ان تكون مقر اقامة العقيد نديم، وعندما خرج كراغ من السيارة فتحت له مدخل الفيلا سيدة وادخلته من دون ان يدخل “عيديد”، وفي الغرفة التي دخلها كان هناك ثلاثة عملاء من “الموساد” عاجلوا كراغ ببضع لكمات ورموه ارضا قبل ان يكبلوه وقام طبيب فرنسي يهودي بفحصه حيث رأى انه تحت وقع الصدمة ونصح بعدم اعطائه اية مسكنات وبادره احد عملاء “الموساد” بالقول باللغة الالمانية “انت الان سجين لدينا فاما ان تفعل ما نقوله لك او اننا سننهي حياتك الان”، فوعده كراغ بالتعاون.
تم نقل السجين كراغ في عربة تجرهها سيارة “فولسفاكن” وانطلق موكب الجميع، ومن ضمنهم ايسر هاريل، برا نحو الحدود الفرنسية، وفي الطريق توقف الموكب في احدى الغابات حيث ابلغ هاريل العالم الألماني كراغ انه اذا اتى بأية حركة مشبوهة عند المرور على الحدود، سيعمل سائق العربة على بث نوع من السم يقضي عليه على الفور. مرت الامور بسلام على الحدود ووصل الموكب الى مدينة مارسيليا الفرنسية حيث جرى تخدير كراغ قبل نقله على متن احدى طائرات شركة “العال” التي كانت تتولى نقل اليهود المهاجرين من شمال افريقيا الى “اسرائيل”، وقال عملاء “الموساد” لضباط المطار ان كراغ هو مهاجر مريض جدا لتبرير تخديره، في ما تولى عملاء اخرون بث معلومات مغلوطة تضمنت صورا لشخص يشبه كراغ، وهو يتنقل حاملا حقيبة وثائق في امريكا الجنوبية للايحاء بان كراغ قبض الاموال من المخابرات المصرية وفر، وبشكل مواز، سربت وكالة “الموساد” الى الاعلام ان كراغ تشاجر مع الجنرال خليل وجماعته، ما ادى الى اعتقاله وقتله من قبل المخابرات المصرية.
ويضيف بيرغمان، في “اسرائيل” جرى التحفظ على كراغ في احد المقرات السرية لـ”الموساد” حيث أخضع لتحقيق قاس لعدة اشهر، في البداية، لزم السجين الصمت ولكن مع الوقت انهار، وبدأ بالتعاون وقدما معلومات غاية في الاهمية، بحسب ما يقول تقرير لوكالة “الموساد” عن الواقعة، ويضيف التقرير “كان الرجل يتمتع بذاكرة قوية جدا ولديه معلومات تفصيلية دقيقة جدا عن البرنامج الصاروخي المصري في ما كانت الوثائق في حقيبته ايضا تتضمن معلومات قيمة”.
بعد ان انتهى التحقيق معه عرض كراغ ان يعود الى ميونيخ ويتعاون مع “الموساد”، وقد اغرت الفكرة عملاء الوكالة لكن ايسر هاريل راى فيها مخاطرة كبيرة خشية ان يقوم السجين بتسليم نفسه للشرطة ويروي واقعة خطفه فقرر ما هو اسهل، اذ امر احد رجاله بنقل كراغ الى منطقة نائية شمال تل ابيب واطلاق النار عليه قبل ان تقوم طائرة عسكرية اسرائيلية باخذ جثته ورميها في البحر.
نجاح عملية خطف كراغ زادت حماسة بن غوريون، فأعطى الضوء الاخضر لعمليات قتل اخرى، كما اقر باستخدام الوحدة رقم 188 في الاستخبارات العسكرية “امان” لتنفيذ الامر. يقول بيرغمان ان هذا الامر اطلق منافسة حامية بين “الموساد” و”امان” لتنفيذ عمليات القتل.
المصدر: ترجمة ماهر أبي نادر – 180
from وكالة نيوز https://ift.tt/3bdtGUp
via IFTTT
0 comments: