استسلام الناس وخيباتهم، وشعورهم بالتّخلي والضعف وعدم الانتماء للدولة (نذير حلواني)
جنى الدهيبي– المدن
على أحر من جمر
في ساحة النجمة، واكبت “المدن” جولة البلدية التي يقودها رئيسها رياض يمق. ورغم أنّ المبلغ المخصص من البلدية ليس كبيرًا، ولا يغطي حجم الفقر والحاجة في طرابلس، كما أنّ قيمة القسيمة (75 ألف ل.ل.) متدنية مقارنةً مع الغلاء الفاحش والعشوائي للأسعار في المتاجر الغذائية، إلّا أنّ سكان المناطق المخصصة لتوزيع القسائم يوم السبت، كانت جميعها تلتزم المنازل مثلما طلبت البلدية، وتنتظر على أحرّ من الجمر استلام قسيمتها، علّها تعوّض بعضًا من عجزهم عن التصدّي لحالة الحرمان والعوز التي تجتاح يومياتهم البائسة.
كخليّة نحلٍ، عمل الشباب والشابات المتطوعون في الفرق الكشفية، من أجل تسليم العائلات قسائمهم الغذائية، بحسب الخريطة التي وضعتها البلدية. الشابة نبال ديب (18 عامًا) من الكشاف العربي، تطوعت في عملية توزيع القسائم، قالت لـ”المدن”: “مهما فعلنا ومهما بادرت البلدية والجمعيات لمساعدة أهالي المدينة في محنتهم، لا يمكن لأحد أن يتخيل حجم الفقر في طرابلس. ورأيت حالات عاجزة عن شراء ربطة الخبز والحدّ الأدنى من قوتها اليومي”.
لكن، هل تغطي قسيمة شرائية أو كرتونة إعاشة حاجات الطرابلسيين، الذين يزدادون فقرًا (وتفقيرًا) يومًا تلو الآخر؟ يجيب رئيس البلدية خلال مواكبته لعمل الكشّافة: “نعرف أنّ المبلغ الذي قدمته البلدية متواضع، ولا يغطي حاجات عشرات آلاف العائلات، لكننا ساهمنا بما نقدر عليه في هذه المرحلة، وحاولنا أن نشمل نحو 40 ألف عائلة، ونتطلع إلى المساعدات المتوجب على الدولة تقديمها مع وزارة الشؤون الاجتماعية”.
الاستدانة من الصيدلية
يعرف أهالي طرابلس أنّ مشاكلهم ومعاناتهم المتفاقمة، ليست وليدة فيروس “كورونا” ولا الأزمة الاقتصادية المستجدة ولا حتّى نتيجة انهيار الليرة أمام سعر صرف الدولار. أزمتهم الحقيقية تتأصل جذورها لعشرات السنين، في حكايتها مع سياسات التهميش والعزل والاستغلال من قبل السلطة وأحزابها وتياراتها، وقد اختبرت أصعب الظروف خلال جولات المعارك بين جبل محسن وباب التبانة قبل أن تتوقف مع الخطة الأمنية في العام 2014.
على بُعد أمتارٍ من تجمّع الكشافة، صادفنا سيدةً اسمها منتهى تقف مع زوجها الكفيف، جاءت من منطقة القبة إلى ساحة النجمة لتسأل عن دورها بالحصول على القسيمة الشرائية. تعيش منتهى في غرفةٍ صغيرة مع زوجها المريض وولديّها، استأجرتها بـ 200 ألف ليرة لبنانية. جاءت على عجلٍ بصحبة زوجها، من دون أن يضعا لا كفوف ولا كمامات. نسألها عن السبب، فأجابت: “أتديّن من الصيدلية لشراء دواء زوجي، ونحن لا نملك ضمان صحي، وصرت أخجل أن أطلب الكمامات. كنا نتلقى بعض المساعدات من الجمعيات، لكنّ جميعها انقطعت عنّا بعد الأزمة الاقتصادية، وحاليًا ننكسر 4 أشهر على تسديد إيجار منزلنا”. تعرف منتهى أنّ القسيمة الشرائية لن تكفيها لشراء كامل حاجاتها، وتقول: “معليش، أيّ مساعدة أفضل من ولا شي”.
توزيع القسائم الشرائية، أدى إلى اكتظاظٍ كبير في المتاجر الغذائية في طرابلس، حيث توافد الآف لتصريفها مقابل شراء حاجاتهم، وكان ذلك من دون عملية تنظيم لدخول الناس حفاظًا على سلامتهم من تفشي الفيروس!
إلى التبانة
استسلام الناس وخيباتهم، وشعورهم بالتّخلي والضعف وعدم الانتماء للدولة، تظهر ملامحه كلّما توغلنا في الأحياء الأكثر فقرًا. نصل إلى “باب التبانة” لمعاينتها عن قُرب، فنرى فاجعة المشهد. اليوم الأحد، ينتظر أهالي التبانة جولة البلدية لاستلام قسائمهم الشرائية. ومع ذلك، لا يبدو أنّ أحدًا منهم يكترث لشيء. هو تعوّد مريع على الفقر وكلّ تبعاته من مشهديات ونمطٍ في العيش.
الناس ينغلون نغلًا في شوارع التبانة الضيقة، وكأنّهم لم يسمعوا أصلًا عن جائحة عالمية تحصد الأرواح اسمها “كورونا”. بعد أمتارٍ من ساحة “الأسمر” في المنطقة، محلات عشوائية للأسماك واللحوم والعربات والمقاهي، والروائح المنبعثة من النفايات المرمية في كلّ حدبٍ وصوب، تطبق الأنفاس اختناقًا. وعلى باب سوق الخضار الشعبي وعند محيطه، يتدافع الناس ذاهبًا وإيابًا، وكأنهم في تظاهرة شعبية، إمّا لكسب رزقهم وإمّا لشراء حاجاتهم وإمّا للتمويه عن أنفسهم.
لا علاقة لباب التبانة بالتعبئة العامة والحجر المنزلي. السواد الأعظم من سكانها من دون كفوفٍ وكمامات. نمشي بكفوفنا وكماماتنا، فينظر العابرون حولنا بالريبة والعجب، كغرباء دخلوا إليهم من عالمٍ آخر. ولدى إلتقاطنا بعض الصور، تأتي نحونا إحدى السيدات لتسأل مستنكرةً: “هل تلتقطون الصور لإظهار عارنا للعالم؟!”. نطمئنها لترتاح، فتسرد لنا معاناتها ومعاناة جيرانها. وتقول: “نعيش من قلة الموت”.
بانتظار النواب والأثرياء
أكثر ما يطمح إليه أهالي التبانة ومحيطها، رجالًا ونساءً، هو أن يجدوا من يمدّ لهم يد العون، ولو بكرتونة إعاشة، وهنا الكارثة. الأطفال يلعبون بالشوارع، بالطابة أو القتال أو أشياء أخرى، ولا يتابعون تعليمهم عن بُعد، لأنّ معظهم في الأصل تسرّبوا من المدارس. يمشي أبو أحمد مع ولديّه الصغيرين، لأنه “عم يكزردهم”، على حدّ قوله، ويتابع: “لا أستطيع أن ألتزم الحجر المنزلي، أنزل للعمل في إحدى عربات القهوة مقابل 10 آلاف ليرة، وهي لا تكفيني لشراء شيء، لأن حتى طرابلس لم تعد أمّ الفقير، والأسعار تحلق يومياً في السماء”.
بعد أمتار من جولتنا، يستوقفنا الجيش الذي ينتشر في “التبانة”، “لأنّ التصوير هنا مش مزحة”، وفق ما قال أحد العساكر. وقبل أن نمضي، يوشوش لنا أحد العابرين ليخبرنا قائلًا: “أكثر شي ماشي هون الحبوب والحشيش، وإلّا كانوا هل شباب فقدوا عقلهم”!
في هذا الوقت، ينتظر أهالي طرابلس مبادرات نواب المدينة وكبار المتمولين المتحدرين منها لمساعداتهم في هذه المحنة. وفيما تكثر الأخبار والشائعات عن ضخّ التبرعات المالية والعينية، علمت “المدن” أنّه حتّى الآن لم تتبلور أيّ خطّة جدية ومتكاملة لإعلانها، وأنّ النقاش لا يزال دائرًا، بانتظار الأسبوع المقبل.
from وكالة نيوز https://ift.tt/2RxEcNN
via IFTTT
0 comments: