خاص “لبنان 24″
كتب الأستاذ المحاضر والباحث في الشؤون المالية والإقتصادية البروفسور مارون خاطر لـ”لبنان24”: في قراءة استطلاعية أوليَّة لمضمون التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان والتي تحمل الارقام 148 و149 وللقرارات الأساسية 13215 و 13216 المرفقة بها، يتبين لنا أن هناك مستَفيدَين إثنين وخاسرا واحدا.
المستفيد الأول هو من دون أدنى شك المصرف المركزي نفسه والذي سيحاول أن يُبعِد عنه النقمة الشعبية المُستثمرَة سياسيا لبعض الوقت. هذه النقمة التي تصاعدت بعد ثورة 17 تشرين بسبب القيود المفروضة على عمليات السحب والتحويل إلى الخارج. من ناحيةٍ أخرى أكثر عمقاً وإتصالاً بدوره الحالي والمقبل، يمكن إعتبار المصرف المركزي مستفيداً لأن التعميم 148 سيمكِّنه اختبار مدى تلقف الاسواق لسياساته النقدية والمالية العتيدة والتي بدأت أول بوادرها تظهرفي مضمون التعميم 149 الذي سيتدخل بموجبه وبشكل مباشر في سوق القطع. تجدر الإشارة أن هذا الاختبار سيقوم على عينة حقيقية ذات انعكاسات محدودة على مجمل القطاع المصرفي والنقدي. فأموال صغار المودعين كما حددها التعميم 148، وإن كانت موزعة على حوالي مليون وسبعمئة وخمسة عشر الف حساب يشكلون 61% من مجمل عدد الحسابات، فإن حجمها فيما لو دفع مبلغها كاملاً لا يتعدى الألف مليار ليرة لبنانية وهو لن يُدفع لأسباب سنوردها لاحقاً.
على صعيد آخر يُعتبرالتعميم 148 مكسباً استراتيجياً لمصرف لبنان بالنظر الى الدور الأساسي الذي سيطَّلع به المصرف المركزي في إطار إيجاد الحلول للكارثة المالية والنقدية التي يتخبط بها لبنان. فهو سيتمكن من تحديث قاعدة بياناته تحضيراً لأي عمليات قص شعرHaircut محتملة، وإن كان هذا الإحتمال موضع نفي وإستنكار في الوقت الحالي. تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن خسائر الاقتصاد اللبناني من الأموال المهدورة والمسلوبة تقدر بحوالي 83 مليار دولار. إن اخراج صغار المودعين من القطاع المصرفي يساعد وبكلفة مقبولة على إخفات صوت الشارع في حال تنفيذ اجراءت صارمة وجائرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التخلص من فقراء المصارف يمكِّن المصرف المركزي من إعادة تقييم دقيقة للحجم الحقيقي لصغار المودعين وبالتالي للكبار منهم.
المستفيد الثاني، ومن دونأدنى شك أيضاً، هي المصارف اللبنانية ومن خلفها جمعية المصارف. فالتعميم 148 يعطي الغطاء القانوني والتنفيذي للمصارف للتخلص من الأرامل ومن فلوسهن دفعةً واحدة. في الحقيقة لم تكن المصارف اللبنانية تتخيل أن تتمكن من التخلص، في غضون ثلاثة أشهر، من ضغط الفقراء من أصحاب الحقوق وهم كثر وبالتالي من جزء كبير من الحسابات التي لا تغطي اراداتها قيمة تكاليف الوكالةAgency Cost الخاصة بها أو حتى تكاليفها التشغيليَّة. أما المكسب الثاني الذي حققته المصارف من هذا التعميم، وهو مكسب مباشر، فيتمثل بإلزام الفقراء على إطفاء ديونهم للمصرف كىشرط أساسي للاستفادة من مضمون التعميم. تؤكد مصادر مصرفية مطلعة أن تضمين التعميم ١٤٨ هذا البند كان شرطاً أساسياً لقبول جمعية المصارف بمضمونه. عملياً، إن التعميم 148 ليس إلا آلية ملتبسة تهدف إلى تسديد ما كان متعثراً من ديون الفقراء منذ أيام السلم والثورة إلى زمن الكورونا الموبوء. ولقصة مكاسب المصارف تتمة إذ أن التعميم 148 يتيح لها دفع الودائع المحوَّلة من الدولار إلى الليرة اللبنانية إستناداً إلى سعر صرف يحدد أسبوعياً. التجربة الأولى تبيِّن أن هذا السعر أقل من السعر الحقيقي الذي يحدده العرض والطلب. عملياً، يسمح هذا التعميم للمصارف بالاستمرار بشراء الدولار بسعر منافس لتقوم في ما بعد بإستعماله لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية ليس آخرها تأمين السيولة أو بيعه في سوق الصرَّافين.
لا يمكن اعتبار الصرَّافين على انهم فئةٌ ثالثةٌمستقلة من المستفيدين. فهم استفادوا من مكاسب المصارف وحققوا أرباحاً معلنة وغير معلنة كنتيجةٍ لتداعيات الأزمة النقدية وفقدان الدولار من الأسواق. بالإضافة إلى ذلك، حقق الصرافون مكاسب مهمة كنتيجة لتدابير للمصرف المركزي وذلك منذ ارتضاء نقابتهم الالتزام ب 2000 ليرة كحد أقصى لشراء الدولار في اواخر شباط، مرورا بالتعميم رقم 546 الصادر بتاريخ 6 آذار 2020 وصولاً إلى التعميم 149 وما تبعه من حماسة بالنسبة إلى توحيد سعر الصرف مع مصرف لبنان. فتثبيت سعر الشراء وترك تحديد سعر المبيع للعرض والطلب من جهة، وتولي مديرية العمليات النقدية في مصرف لبنان التداول بالعملات بالدولار الأميركي وفقاً لسعر السوق مع بعض شركات الصرافة من الفئة (أ) من جهة ثانية لا يمكن تصنيفه إلا في خانة المكتسبات . نود أن نلفت النظر إلى أن التعميم 148 يشير الى أن المصرف المركزي والمصارف ستتحمل الخسائر الناتجة عن تحويل الأموال إلى الدولار. إن الوضع الحالي للمصرف المركزي وللمصارف يجعلنا نستتنتج أن من سيتحمل هذه الخسائر هم من تبقى من المودعين.
أما الخاسر الأكبر والأوحد من هذه التعاميم فهم من حسبهم الله من صغار المودعين وكبار الصابرين. إن خسارة هؤلاء معنوية بالأساس إلا أن خسارتهم المادية ليست بقليلة. فالتعميم 148 يتيح للمصارف الإستيلاء بطريقة قانونية على ما تبقى من الذهب الأخضر في جيوب فقراء القوم عبر تحويل ما يمتلكونه الى العملة الوطنية. تحسب هذه التحويلات على سعر هجين جديد أقل من السعر المتداول في السوق البديلة مما يجعل صغار المودعين أول من تطبَّق عليهم عمليات قص الشعر Haircut المرفوضة في العلن. من ناحية ثانية، يوجب هذا التعميم أن يطفئ المودعون ديونهم للمصارف كشرط أساسي للإستفادة من تقدماته مما يحصر الاستفادة منه بقلة قليلة من أصحاب الحسابات. أما الخسارة الأكبر والأهم فتتمثل في إخراج صغار المودعين بشكل نهائي من القطاع المصرفي. فبعد شطب هؤلاء من دفاتر المصارف، ليس من سبب منطقي يعيدهم للقطاع المالي. إن هذه النتيجة التي تعدُّ اقصاءً مالياً Financial Exclusion موصوفاً تتناقض بشكلٍ كامل مع برامج البنك الدولي التي تصرّ على اشراك صغار المودعين في الأنظمة المصرفية أو ما يعرف بالشمول المالي Financial Inclusion كوسيلة لمكافحة الفقر. يتحقق ذلك من خلال بناء قواعد بيانات مالية شاملة تساهم في خفض الإعتماد على المعلومات الغير رسمية Informalityفي بناءالاستراتجيات النقدية، المالية والإقتصادية. فالواقع الجديد سيلزم المصارف على الإستمرار بقاعدة عملاء تقل عن النصف، مع خسارة المصرف المركزي لإمكانية تتبع حركة وأصولهم وتعاملاتهم بعد دخولها القطاع غير الرسمي.سيؤدي ذلك الى اضعاف دقة وفعالية وتأثير السياسات النقدية والمالية والاقتصادية بشكل كبير. أما الاقتصاد، فيخسر عامل مضاعفة الاقتراضCredit Multiplier مما يزيد الانكماش الاقتصادي.
نسأل أخيراً :
كيف ستُدفع المساعدات للكثيرين ممن اغلقت حساباتهم تحفيزاً لا بل قسراً إذا أخذنا بعين الإعتبار شدة الأزمة؟
أتريدونهم أصحاب بطاقات مصرفيًّة تستعمل خارج أسوار المصارف؟
انكم بما تفعلون تجعلون من فقراء المصارف كسواهم من اللاجئين في بلدهم، بلد اللاجئين من مواطنيه ومن غيرهم…
from وكالة نيوز https://ift.tt/2RHPUFB
via IFTTT
0 comments: