
“ليبانون ديبايت” – المحامي نجيب نعيمه
في أوج أزمة ما عُرفَ بالصّواريخ الكوبيّة في تشرين الأوّل من العام 1962 ما بين الاتّحاد السّوفياتيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة، والّتي كادت تشعل حربًا نوويّة بين الجانبين، وصلتِ الاتّهاماتُ والاتّهامات المقابِلةُ إلى ذروةٍ لم تشهدها كرتنا الأرضيّة يومًا من أيّامها.
ففي خطاب ناريّ له يتحدّى به الاتّحاد السّوفياتيّ، وَمَنْ يقف وراءه، يصرّح جون كينيدي فيقول إنّ لدى الولايات المتّحدة الأميركيّة قوّة نوويّة تستطيع من خلالها تدمير الكرة الأرضيّة لأكثر من عشر مرّات. كان ردّ نيكيتا خروتشوف حينها سريعًا ومُقتَضَبًا- وهو العالِم بشؤون الحرب والدّمار كأحد أبطال الحرب العالميّة الثّانية. فقال إنّه إذا كان للولايات المتّحدة القدرةُ على تدمير الكرة الأرضيّة عشر مرّات، فالاتّحاد السّوفياتيّ قادرٌ على تدميرها لمرّة واحدة فقط لا غير!
حصل هذا في سنة 1962.
من خلال هذه السّطور، لن أربِكَ عقولكم ونفوسكم بالأرقام المخيفة والمرعبة حول أعداد الصّواريخ والقنابل النّوويّة والهيدروجينيّة المُخزَّنَةِ والمَنصوبَةِ والمُوَجَّهَة على مساحة هذه الكرة الحزينة الّتي نحيا منها وعليها. كذلك، فأنا لن أضجرَكم بأسماء الغوّاصات النّوويّة المزروعة في بحارنا ومحيطاتنا ولا بالمحطّات الفضائيّة الّتي يمكن من خلالها توجيه الصّواريخ النّوويّة إلى الأرض… إنّما سأكتفي بالقول إنّ كلّ هذه وتلك، ما هي سوى “ألغام” مزروعة تحت قَدَمَي الإنسان والإنسانيّة. هي فقط تنتظر “كبسة زرّ”ٍ من إصبع أحد رعناء الأرض- وما أكثرهم- لتدمير الكرة الأرضيّة بمَنْ وما عليها… ولمرّة واحدةٍ فقط….
مع ٱنهيار الاتّحاد السّوفياتيّ أواخر العام 1989، ولفترة زادت على العشرين شهرًا بعد ذلك، حين تمّ تجميع الصّواريخ والتّرسانة النّوويّة بين جمهوريّات الاتّحاد الّتي تفكّكت، وبخاصّة بين جمهوريّتَي روسيا الاتّحاديّة وأوكرانيا وحتّى من دول “حلف وارسو”؛ فإنّه، ومن بين أكثر من عشرين ألف صاروخ نوويّ كان يمتلكها الاتّحاد، فإنّ مئات، ولن أقول آلافًا من بين هذه الصّواريخ والقنابل قد فُقِدَتْ وضاعت ولا نعرف عنها شيئًا. الأمر الوحيد الّذي نعرفه عن هذه الصّواريخ الضّائعة هو أنّها موجودة، وبحالتها السّليمة جدًّا، ولكن بين أيدي منظّمات ومافيات وربّما مجموعات صغيرة بٱنتظار “كبسة الزّرّ”…
من بين آلاف الصّور عن الحرب العالميّة الثّانية الّتي تشكّل كلّ صورة فيها عبرة وقصّة للإنسانيّة، صورة تؤرّقُني حتّى الجنون. هي صورة الفيزيائيّ الأميركيّ هارولد أغنيو Harold Agnew وهو يحمل بيده اليسرى أقلّ من ستّة كيلوغرامات من البلوتونيوم- غذاء قنبلة ناغازاكي الّتي أوْدَت بحياة أكثر من ثمانين ألف إنسان بأقلّ من ساعتَين.
أحداثٌ وصورٌ وخيالاتٌ لطالما قضّت مضجعي.
صورٌ لكرةٍ أرضيّة باتت في خبر كان.
صورٌ لانقراض آلافٍ لا بل ملايين الأجناس الحيّة بما فيها الجنس البشريّ.
إنّه الوباءُ الّذي لن يُبقي ولن يذَر.
نعم، شكرًا كورونا.
شكرًا لكَ فيروس كورونا.
شكرًا لكَ. ليس لأنّنا هربنا منكَ وانزوينا جبناء في حُجُراتنا ومنازلنا. فسيأتي يوم ونتغلّب عليكَ.
شكرًا لكَ. ليس لأنّكَ قتلتَ وتقتلُ كلّ يوم أحبّة وآباء وأمّهات. فقريب هو اليوم الّذي سنفتكُ بكَ أشّد الفتك.
شكرًا لكَ. ليس لأنّ العالم خسر ويخسر الملايين والمليارات بسببكَ. فغدًا سنعوّضُ خسارتنا لتبقى أنتَ ذكرى مقيتةً لنا ولأجيال من بعدنا.
بل شكرًا لكَ لأنّك قد توقظ فينا ما كان يجبُ أن لا يهجعَ في ضمائرنا يومًا…
أقول: قد توقظ فينا؛ لأنّ فرضيّة أن تبقى ضمائرنا نائمة، هي الاحتمال الأكبر عندي لعدم ثقتي بضمير الإنسان، طبعًا مع عدم التّعميم – وحيث لا يجوز.
لطالما كان خوفي عظيمًا- قبل الكورونا وسيبقى بعدها- من هذه التّرسانة البيولوجيّة والنّوويّة والكيميائيّة الّتي تهدّد الإنسانيّة جمعاء، والكرة الأرضيّة برمّتها. هذا اللّغم المستمرّ الّذي نسير عليه بلا هوادة ولا ندري متى وأين سينفجر فينا. إذا كانت جرثومة ميكروسكوبيّة كالكورونا قد هجّرَتْنا وعزلَتْنا وجوَّعَتْنا وأَفقرَتْنا وأماتَتْنا، فما بالُكُم متى بدأت كيلوغرامات، لا بل أطنان وأطنان من شبيهات ما حملَهُ هارولد أغنيو Harold Agnew تتفجّر في مدننا وقرانا وعلى جبالنا وفي محيطاتنا وفي غاباتنا وبين بيوتنا، وفي كلّ أوكسيجين الأرض وترابها، وفي أنهارها وينابيعها، وعلى كلّ ورقة خضراء وكلّ سنبلة في كلّ حقل، وفي العصافير الطّائرة والزّواحف بين الصّخور وتحت الرّمال وفي أسماكنا الصّغيرة وحيتاننا العظيمة…
في ذلك الحين، لن يفيدَ حَجْرٌ ولا تعقيمٌ، ولن يفيدَنا أبدًا غسلُ اليدين بالصّابون وبطريقة سليمة تبعًا لخبراء غسل اليدين على شاشات التّلفزيون، وطبعًا لن يفيدنا قناع من القماش…
في ذلك الحين، لن يبقى كورونا ولا مَنْ يكافحُ الكورونا ولا مَنْ يخبرُ عن الكورونا.
سننتصر على الكورونا، وسنخرج من معاقلنا وسنرى الشّمس من جديد، وسنتناول الطّعام سويًّا في المطاعم، وسنلتقي مجدّدًا قي صالات السّينما، وسنخرج إلى حقولنا وكرومنا، وستعاود المدارس والجامعات استقبال أولادنا، وسيرجع المصلّون إلى كنائسهم وجوامعهم، وسنضمّ آباءنا وأمّهاتنا وأحبّاءنا إلى قلوبنا ونشبع منهم ويشبعون منّا. ولكن، وبعد الكورونا، هل سيفتح العالم عقلَه قبل بصره – وبخاصّة من يدّعون قيادة العالم – فيعون ما قَصَدْتُهُ من خلال هذه السّطور، ويبدأون بتدمير ما قد يدمّرُنا، وتفكيك ما قد يفكّكُنا؟ لأنّ الكورونا عندها سيكون مزحة، مجرّد مزحة…
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/3aK2L1K
via IFTTT
0 comments: