اليوم الأحد، تبارك اسم الرب. السّاعة تُشير إلى التّاسعة صباحاً. جمعت ذاتي المبعثرة وارتديتُ ثوبَ الاحتفال الأرجوانيّ وتهيّأتُ للمناسبة المقدَّسة. إنَّه أحدُ القيامة، قيامة سيدي المسيح المجيدة من بين الأموات.
نظرتُ في المرآة جليّاً، الشّحوبُ يَشي بالمرارة الدّفينة في أعماقي. وقد كابدتها يومَ أمس الخميس، خميس الغسل، وفي الجمعة العَظيمة، وسبت النّور. وها هو اليومُ الكبير، يوم الفصح المنتظر حلَّ والوباء المستشري في العالم يُنبئ بمزيدٍ من الكوارث والآلام والموت.
المصابون يئنّون تحت وطأة لظى الحرارة الشديدة التي تشوي أجسادهم ليلتهمها الوباء، فيُطفئ نور الحياة في أحداقهم النَّهمة إلى مرأى الأحبة المستحيل… يا إلهي! الرّوع يُسمِّرُ أطرافي ويرمي بروحي نحو الأسفل.
أُفكِّر بعقلي المشلول المُنسَحِب إلى ظُلمة الواقع المُرّ، فأجرُّ جَسَدي بقوَّة إرادتي. عليَّ أن أُواكبَ شَعبي لِنَستَمرَّ معاً في المواجهة. أنقلُ خطواتي المتثاقلة وأدخلُ كنيستي.
المقاعد البُنّيَّة المرصوفة خلف بعضِها بعضاً تُدخِلُ في قلبي رهبة المكان الخالي من أُناس كانوا يأتون زُرافاتٍ ووحداناً، واماراتُ الرِّضى والحبور تُظلّلُ محياهم وهم يجلسون قبالة المذبح والبهجة تطفو على وجوههم ونظراتهم وتمتدُّ إليّ.
يا إلهي! كمِ المشهد ضاغط على نفسي المتألّمة، أنا وحدي في رُتبة القدّاس، أُتمتمُ الصَّلاةَ كمَن يُكلِّم نفسه، وأُرَتّلُ الأناشيد الدينيَّة بصوت يكادُ يرتَفع، فلا مَن يسمع، ولا مَن يُجيب.
المقاعد الخالية مِن الأنام تزيدُ اللوعة في صَدري، فوباء كورونا الذي سلب العالم هناءَته واستولَى على ما لديه من معرفة وعِلمٍ وقوّةٍ، وقُدرةٍ على درء مخاطره وأهواله، إنَّه يحَدّق إليَّ الآن هازئاً بعَينَينِ وقحتَين. يا إلهي ما العمَل؟!
صوتي الذي يهمُّ بالإنشاد يتهدَّجُ، يرتجف! تعلو الترتيلةُ ثمّ تنهار في حلقي الذي تخنقه الدَّمعة الحارقة. أتحامَلُ على نَفسي، أجهَد لأتماسك، أتطَلَّع مجدّداً علِّي أعثُرُ على ما يدعم عزيمتي لمتابعة القُدّاس، كما كنتُ أفعلُ في ماضي الأيام الخَيّرة، الآمنة من سطوةِ هذا الوباء الشرس، المنقضّ على المعمورة. أجِدُ أسواطَ الفراغ المُجلجلة تنهالُ عليَّ، وصدى صَوتي المبحوح يتردَّدُ بين أعمِدَةِ المكان.
الحقيقة المُرَّة أتجرَّعُها، فتتنازعني، تأسرني في ظلام الغدِ المجهول…
وفَجأة! ينتَشِلُني إيماني، يأخذ بيَدي، يُجَفِّفُ دَمعي، يمسَحُ عن جبيني المثلجِ عرقاً برأفة الأُمِّ الحنون، وينفُخُ في صَدري الأمَلَ بِالخلاص. أنا المَسيحيُّ الراهِبُ الذي تربَّى على رجاء القِيامة، ما بي؟! كَيفَ تعتملُ هذه الاختلاجاتُ المدمِّرَة في قلبي، أنا الذي نشأتُ في رَحَم المعاناة من إرثٍ دامٍ، وولدتُ في حضن شعبٍ آتٍ من أتون الحرائق والدّمار والذبح والتَّهجي، من أُمَّة أبيةٍ شُرِّدَتْ ونُهِبَ تُراثها، ودُنّستْ مقدَّساتها! ماذا بي يا إلهي! امنحني يا ربّي من عليائك، من جَبَروتِكَ العَزمَ على المتابَعَةِ والصمود، كما مَنَحتَ شعبي الأرمنيّ الذي قاوَمَ بإيمانه الرّاسِخ القتلَ، والتشريد، والأوبئة، والجوعَ، وزَحَفَ على ركبَتَيه،حتّى بلغ دِياراً آوَتْهُ، فكفكفَ البلَدُ المُضيفُ دَمعَهُ، وضمَّد جُرحَهُ، وفتحَ له الأبوابَ الواسعة لينهَلَ رِزقَه. وقد سار على طُرُقات الموتِ مرفوع الرأس، ثابِتَ الجَنانِ، ومنها عبر إلى أرضٍ خضراءَ بديلة، تُنشِدُ فيها ملائكة السَّماء البَهية ترانيمها العَذبة، فصدحت أنغامه في الأجواء ألحاناً شجية، ورسَمَ كونَه الشّاسعَ الرَّحبَ حيثُ انتشرتْ أعدادُه الغفيرة، الألوانَ البهيجة، بأصابعه المضرَّجة بدماء أهله المذبوحين ظلماً، وابتهل إلى الله طالباً الرحمة، فنثرَ أينما جاء وارتحَلَ، الحُبَّ والخَير والخِدمَة والعَطاء.
from وكالة نيوز https://ift.tt/3cqOoQ8
via IFTTT
0 comments: