“ليبانون ديبايت” – روني ألفا
بناءً على رغبة العائلة وبعد إلحاحٍ اقتَحَمَ أعصابي التي كانت في ما مضى فولاذية، قضِيَ الله أمراً كانَ مفعولاً. سأزورُ السوبرماركت طائعاً مُختاراً. تمَّ إقناعي بأنه يجب شراء مخزون إستراتيجي من المواد الأولية تحسّباً للمجاعة. يتحوّل بيتنا تدريجياً إلى ما يشبِه إهراءات القمح في الدَّورة واحتياط مصرف لبنان في الحَمرا.
أنا في السوبرماركت. على المدخل مدير مراسم الإستقبال باكستاني متعاطف مع تحرير مقاطعة كشمير . رجلٌ قصير القامة. نحيل الجِسِم. مِن أقحاح إسلام أباد. في يده قارورة سبيرتو عيار سبعين بالمئة مزوّدة فوهتها بمرشّة. مشهَد سوريالي أن تُستَقبَلَ بالسبيرتو في السوبرماركت. مثلُه مِثل غرابة مشهَد ممرِّضة مُجازَة تستقبلُكَ في الطوارئ وفِي يدِها مَجمَع نوتيللا أو كيس طحين زيرو . تَخال أن مِن شروط دخولِك السوبرماركت أن تأخذ حمام سبيرتو أولاً. تحمدُ الله أن القارورة مخصصة لتنظيف مسكَة الكرّاجة بِدواليب أنتَ على وشك دفعها داخل الأروِقة وبينَ الرُّفوف. هنا كورونا هو الطاغية والحاكِم بأمرِه.
مِن دون مبالَغة. الناس يَمشون كأنهم داخل أروِقَة سفينةٍ فضائية. مع إنسجام إضافي في الجوّ يمكن أن تتخيّل بأنك ستلتقي بِيوري غاغارين ونيل أرمسترونغ قرب برّاد اللبنة. كمّامات من طراز رفيع يضعها المتبضِّعون والمتبضِّعات. ليس تلك الشفّافة باللون الأزرق أو الأبيض. كمّامات تكاد تصلَح لمواجهة القنابل المسيِّلة للدّموع وغاز الخردل. منها ما يشبِهُ البَلاليع ومنها ما يشبِهُ مرابطين الكَبيس بأغطية مدوّرة. مِن حَسَنات الكمّامة أنها تجعَل من مخارِج الحروف مهمّةً صعبة. ينتجُ عن ذلك تباطؤٌ مَلحوظٌ في نسبة ثرثراتِ النِّسوَةِ أو قل بعضهنَّ في المَكان.
المكان برمَّتِه ساقِطٌ عسكرياً. تكفيه عطسَة. راوَدتني فكرةُ استعمال سلاحِ الدمار الشامل هذا. أن أُهدِّد بالعَطس. لكن ما الجدوى؟ الناس يشيحون عنّي ما أن يلمَحوني من بعيد. أنا زبون من دون كمّامة. مجنون يتنفس أوكسجين وضعتهُ كورونا بالإقامة الجَبريّة. لا كُفوف ولا كمّامة. أن تُظهِرَ أصابع يديك في لبنان لهوَ أمرٌ مماثل لإظهار عورتك. أن تتصرّف في سوبرماركت كما تتصرّف في نادي العُراة. أصابِعُكَ مِن دون ورقة تين.
الناس تتحرَّك وكأنها روبوتات. الإنسان الآلي أكثَر حياةً منها. الروبوت فيه أضواء أمامية وخلفية. هؤلاء البشر في السوبرماركت أشبَهُ بالزومبي. كأنهم خارِجون لتوِّهم من مقبرة مجاورة. جَوٌّ يشبه جوّ نهاية العالَم. الجميع ينتظر يوم الحِساب. الجميع يراقب الجَميع. أي تهمَة زُكام قد تتحوَّل إلى محكمة جزائية. أي بَلغَم إلى لُغم.
في لبنان لا وقت لديك لفعل أي شيء سوى فرك اليَدَين بالمُطَهِّر أو غسلِهما بالصابون. تعيش في كرنتينا طَوعية تحسّباً من الإصابة. حتى الآن لا إصابات في صفوف النواب والوزراء والرؤساء علماً أنَّ رؤوس كبيرة تمّ قِطافُها في بقية البلدان. لدى المسؤولين في لبنان مناعةُ الخفافيش. ينقلون الڤيروس ولا يتلقّونَه.
وأنتَ في السوبرماركت تتبضَّع يقترب أحدُهُم. تراقبُ المسافة بدقّةٍ هندسيّة.
المطلوب الحفاظ على مسافة أمان. مترُ واحد على الأقل لحماية نفسِكَ مِن أيِّ غارة رَذاذ. رذاذ العَطس صارَ هذه الأيام أخطر من التحليق المنخفِض للطيران الحَربي الإسرائيلي المُعادي.
تخرج من السوبرماركت لترى مشهد نهاية العالم نفسه. ناسٌ مِن إسمَنت. مِن خُراسان مسلّح. مختَبئون في مَغاوِر الصّمت. يدخلون سياراتهم. قبل إشعالِ محرّكات مركباتِهم يخرِجون مطهّراً صغيراً من حقيبة. يُفرِغون ما تيسَّرَ منه على أيديهم ويَفركون. يطبّقون تماماً الإرشادات. تطهير ما بين الأصابع وصولاً إلى المِعصَمَين. وضوء مِن غير صلاة.
المصيبة المستجدّة في لبنان هذه الآونة عدم توفّر أجهزة تنفّس إصطناعي. الموجود منها في مستشفيات البلد لا يكفي بحسب خبراء الإستشفاء. مئات من هذه الأجهزة بحاجة إلى تنفّس إصطناعي. الموت خنقاً هو ما ينتظر أي مُصاب لا سمح الله.
حظّ المسؤولين في لبنان يفلق الصّخر. الڤيروس عطّل الثورة. يخاف الثوار من التجمّعات. حِلف إستراتيجي بين كورونا والسلطة. الحِراك أخرَج السياسيين من المطاعم والڤيروس ألزَم الحِراك البيوت.
دولَةٌ معطَّلة وشعبٌ عاطِلٌ عن العَمل. لا ينتظر أحدٌ أيّ شيء. مَن ينظر إلينا جيّداً يشعرُ أننا خَرَجنا لتوّنا من مقبرة جماعيّة. لا تنقصنا سوى رحمة الله وصلاة صادقة على جثاميننا.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/3cU7zTN
via IFTTT
0 comments: