Sunday, March 15, 2020

تحيّة متبادلة بِكوعي وحِذائي

“ليبانون ديبايت” – روني ألفا

لبنان مُقفَلٌ إبتداءً من اليوم. لن يستقبِل مراجعاتِكُم لمدة خمسةَ عَشَرَ يوماً قابلةً للتجديد برضى الطرفَين، كورونا والحكومة. الطرقات ستعود ” حفرا نَفرا ” مِن جديد. ستمنَعُنا حالُ الطوارئ من طباعة العملة وطَبعِ القُبَل. نحن اللبنانيين نُهلوِسُ بطِباعَة القُبَل. ثلاثٌ منها على الوَجنَتين. ثَلاثٌ أُخَر لدى التّوديع أيضاً على الوَجنَتَين. تعلِّمُنا الجرثومةُ ضروباً جديدة من السّلام. تشابُكُ الأحذيةِ وخبيطُ الأكواع. الأرجُلُ باتَت ممرّاً إلزامياً للتحيّة. الأيدي باتَت أخطر من الخط الأزرق مع فلسطين المحتلة.

الڤيروس وقِح وبِلا مَربَى. اقتَحمَ حتى اليوم أكثر من مئة شخص تمّ تشخيصُهُم رسميّاً في لبنان. أعدادُ حاملي الجرثومة في ما يُسَمّى فترة الحضانة يفوق الأربعة آلاف حسب تقديرات غير رسمية في بلدنا. عندما يخلَعُ كورونا مريول الحضانة سيتحوّل إلى ڤيروسٍ راشِد. سيتصرّف كيفما يشاء في أحشائنا. المعلوماتُ الأوليةُ تشيرُ إلى أنَّ طرحَ الدواء لن يكونَ قبلَ تشرين المقبل ما يعني أننا سنبقى ستّةَ أشهرٍ على الأقل في الجحيم.

بدأَ كورونا يحاصرُنا. كانت ضحاياهُ بلا أسماء. لم نكن نعرفُهُم شخصياً. صارت الضحايا اليوم أسماءَ عَلَم. بِتنا نسمّيها ونحدّدُ أماكنَ سكَنِها ونُسلسِلُ أقارِبَها. في المآتم باتت المشالحة مع قَطع النّفس هي العُرف. الجرثومةُ تكاد تتقبّل العزاء معنا. تقرأُ الفاتحة وترتّلُ ” فليَكُن ذكرُه مؤبداً “.

ننتظرُ بمزيجٍ مِن التهكّمِ والقلق اقترابَ الجرثومةِ مِن بيتِنا. لم نعرف أبداً في حياتِنا معنى أن يسكنَ الموتُ على أطراف الأصابع. على تُخومِ قبلةٍ أو مسافةِ عطسَة. موتٌ يصيبُكَ عَرَضاً من مجهولٍ لا تربطُكَ به أي علاقة مودّة. قد تتوفّى أيضاً على يدِ نسيبٍ أو قريبٍ يحبُّك. أوَّلُ موتٍ يصادِفُنا فيه هذا القدرُ من الغرابة. يتساوى في إحداثه العدوُّ والصديق. القريبُ والغريب. أوَّلُ قتلٍ من دون سابقِ تصورٍ وتصميمٍ لا تهمةَ فيه تُلصَقُ في القاتِل.

ظاهرةٌ أخرى جديرةٌ بالتسجيل. عودةُ أواصرِ العلاقاتِ العائلية. ڤيروسٌ أعادنا إلى زمنِ العائلة. في البيت صرنا نهتمُّ بالنَّظَر إلى أعيِنِ بعضنا البَعض. عدنا إلى المائدةِ المشتركة بعد أن كانت تمنعنا مواعيدنا المتضاربة من التحلق حولها. كنّا مشغولين بِمخاطِر الحياة صرنا منشغلين بخَطَر الموت. تراجعٌ ملموسٌ في كميَّةِ الكلماتِ التجارية والإستهلاكية في بيوتِنا وازديادٌ ملحوظٌ في كمية الكلماتِ الدينيةِ والفلسفية. عند الخطرِ المحدِقِ حتى التُّفَهاءُ يتحولون إلى مشاريع فلاسفة ومُرشِدين روحيين.

ما فعلته الصين يكادُ يَكُونُ إعجازاً. حَجَرتْ على ١١ مليون شخص في ووهان و٥٠ مليون في مقاطعة هوباي. أكبرُ عمليةِ حَجرٍ في التاريخ لا يضاهيها ربّما إلا الحَجرُ على بومباي حين ضربها الطاعون عام ١٨٩٨. الصين دولةٌ راعيةٌ وفيها الكثيرُ من مزايا الأبِ الصَّالِح. لبنان لا يملكُ أجهزةَ تنفسٍ كافيةٍ لإنعاش المصابين. في لبنان دولةٌ فاشلة. مَحكومون مِن دَجَلة وكذّابين. إذا ” زَمَطَ ” أحدُهُم من هاتين المُصيبَتين ابتلاهُ الله بالجهل.

المهمّ. عيدُ الفصح عند المسيحيين سيكونُ من دون مُصَلّين هذه السنة على ما أعلنَ الڤاتيكان رسمياً اليوم. قيامةُ يسوع ستكونُ من دون ” نحنُ شهودٌ على ذلك” داخل الكنيسة. سنشهدُ داخلَ بيوتِنا على هذا الذي ” حقّاً قام “. في سلالِنا لا بيضَ ملوّناً. لا مَعمول. حلو العيد لا يكتسبُ معناه إلا بالمشاركة. من دونِ زوارٍ لا ضيافة ولا تفقيس. حتى عيد الأمهات سيكون مِن دون لمسِ الأبناء والبنات والأحفاد. الأمهات سيحتَفِلن بعيدِهنَّ وهنّ يتخيّلنَ محبّة أبنائهنّ وبناتِهنَّ مِن بعيد. سَيَستَعينَنَّ بِصورِ العام المنصَرِم. كورونا مُخصِبٌ للخيال وقاتِلٌ للواقِع.

يبقى الحمدُ لله. الحَمدُ أنَّ الجرثومةَ التي خَرَجَت مِن براز الخفافيش لا تنتَقِلُ في الهواء. يكفينا ما في هوائنا مِن خَطايا وآثام. فَلنَغتَنِم فرصةً لنخرجَ إلى الشرفةِ. فَلنعرض وجوهَنا للشمس. شهيقٌ عميق. زَفيرٌ مصحوبٌ بِشحنةِ رجاءٍ أنَّ المحنةَ إلى أُفول وأنَّ الحياةَ أقوى من جرثومة.



from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/39UoP9c
via IFTTT

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل