مرّ من الوقت شهر ونصف الشهر تقريباً على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما سُمّي بـ”صفقة العصر” لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والإسرائيلي العربي، وإحلال السلام الدائم في منطقة لم تشهد هدوءاً منذ ما يقارب قرناً من الزمان.
بعد شهر ونيف على العرض يبدو التساؤل مشروعاً: هل أنّ الصفقة كانت محاولة حقيقية لتحقيق سلام ما؟ أم أنها مجرد استعراض مُبهر لاستدراج ردود أفعال وسبر أغوار الفرقاء قبل الوصول إلى الضربة الأخيرة والمشروع الأخير؟
ما قاله صهر الرئيس ترمب ومستشاره جاريد كوشنر قبل أيام يسمح بهذه التساؤلات ويعيد طرح القصة من أساسها.
أوحى ترمب بأنه يسعى لإنهاء صراعات قرن، لكنه قدّم ما يمكن تسميته سلة من الهدايا إلى إسرائيل التي جمعها سلطة ومعارضة في البيت الأبيض (نتنياهو ومنافسه بيني غانتس)، بغياب فلسطيني تام، ومنحها ما تبقّى من فلسطين.
كان هناك استخفافٌ تامٌ من جانب الرئيس الأميركي بالتاريخ والجغرافيا، وقرارات الأمم المتحدة، وقرارات دول عدم الانحياز، ومنظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، واستخفاف بالحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني المقيم والمشرّد، وبتعهدات سبق للإدارة الأميركية أن أخذتها على عاتقها لجهة التزام حلّ الدولتين.
قالت الإدارة الأميركية ما تريد قوله، واتجهت الأنظار إلى الإسرائيليين والفلسطينيين أولاً، ثم العرب والآخرين، خصوصاً هؤلاء الذين جعلوا من فلسطين عنواناً لسياساتهم الخارجية، أمثال إيران وتركيا، الأولى في استغلالها عنوان القدس معبراً لاختراق المجتمعات العربية والسيطرة على عواصمها، والثانية في استعمالها قضية فلسطين مفتاحاً في سياستها “الإخوانية” العثمانية الأردوغانية.
الإسرائيليون تصرّفوا تجاه مشروع ترمب، بوصفه خُطتهم الخاصة لوضع اليد على ما تبقّى من فلسطين، ومنذ الإعلان عنه بدؤوا العمل على ضم مناطق في الضفة والأغوار والبحر الميت، مستندين إلى “صفقة القرن” وخرائطها.
وقبل أيام، عشية الانتخابات النيابية الإسرائيلية الثالثة خلال عام واحد، أعلن نتنياهو تشكيل لجنة أميركية – إسرائيلية، لرسم خرائط الضم الإسرائيلي في الضفة الغربية، تمهيداً للاعتراف الأميركي بهذا الضم.
وبعد البدء بإعلان نتائج الانتخابات مطلع الأسبوع الماضي، كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي العائد، على الأرجح، إلى منصبه، وعده بضم مستوطنات الضفة وغور الاْردن، مُعلنا بحسم: “سنفرض سيادتنا على غور الأردن، وسنضم المستوطنات”، أي ما يوازي حسب الخطة الأميركية أكثر من ثلث أراضي الضفة، بما في ذلك القدس الشرقية كلها.
كانت ردّة فعل القيادات الفلسطينية الأولى على “الصفقة” تبشّر بتغيير في حالة الانقسام السائدة منذ انفصال حركة “حماس” المدعومة من إيران وقطر بقطاع غزة، وجرت اتصالات “أخوية” بين القيادات في القطاع ورام الله، ودُعِي الرئيس محمود عباس إلى غزة فوعد بتلبية دعوة “حماس” بحماس.
إلا أن حالة استيقاظ الوطنية الكاذبة هذه لم تدم طويلاً، وسرعان ما سقطت أمام المصالح الخاصة، فـ”حماس” كانت تستعد لتلقي أطنان الدولارات من قطر بمسعى مدير “الموساد”، وقائد المنطقة الجنوبية في إسرائيل. و”الجهاد الإسلامي” الملتصقة بالسياسة الإيرانية، التي تنافس “حماس” على السلطة في غزة، انخرطت في موقعة صواريخ نأت “حماس” بنفسها عنها، تدعيماً لدور لها تدعمه إسرائيل، وهو إبقاؤها الطرف المهيمن في القطاع، المتناقض مع السلطة الرسمية في الضفة.
وفي الختام أُلغيت زيارة وفد الفصائل الفلسطينية إلى غزة، وحمّلت “فتح” المسؤولية لـ”حماس”.
كانت “الصفقة” فرصة لرصّ الصفوف الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يحدث، وبقي التراشق السياسي سيد الموقف بين غزة والضفة، وإطلاق المواقف “المسبقة الدفع” سمة لفصائل تربطها بالممولين وشائج تتخطى الوطنية المفترضة.
ولعل الإنجاز المهم فلسطينياً في مواجهة مشروع الضم الجديد، هو بيان منظمة التحرير الفلسطينية الصادر عن مكتب أمين سر لجنتها التنفيذية صائب عريقات الذي يكشف عن 300 خرق للقانون الدولي في صفقة ترمب.
ويؤكد أنها تحتوي على “انتهاكات صارخة للقانون الدولي، إضافة إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية”.
إلى الأبعد قليلاً، سنحظى برؤية مفاعيل الغضب التركي الإيراني. الطرفان اللذان يعتبران نفسيهما بديلاً للعرب في احتضان قضية فلسطين، انخرطا في مواجهة مميتة مباشرة وبالواسطة في أقرب نقطة لفلسطين، في إدلب وضواحي حلب.
هناك سعى كل منهما لفرض حضوره كمقدمة للتأثير اللاحق في سوريا، فنشبت حربُ احتواها مؤقتاً المايسترو الروسي، إلا أنها قرّبت الجانب التركي مجدداً من الأميركيين أصحاب الصفقة، التي رماها أردوغان بأسوأ الصفات، والحرب نفسها جعلت إيران تجدد تمسّكها بروسيا ودورها في ضبط الخلاف، ولو أنّ الحصيلة في مداولات ثلاثي أستانا وسوتشي ستصبّ في اتصالٍ هاتفي تقويمي بين فلاديمير بوتين ونتنياهو!
لإقفال الرواية نعود إلى البطل الرئيس، لقد انكشفت أدوار لاعبين رئيسيين بعد شهر على حفلة البيض الأبيض، إلا أن المثير هو إطلالة صانع الحفلة في ختام شهر ردود الأفعال، ليعلن للجمهور أن كل ما شاهدناه كان خيال ظل.
جاريد كوشنر، مهندس الصفقة، أطلّ أمام لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي الأسبوع الماضي، ليعلن أن “صفقة القرن لا تهدف إلى إحراز تقدّم نحو حل الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي”.
وقال إن الهدف منها هو “وقف تدفق المليارات التي تقدّمها دول العالم إلى الفلسطينيين، ومنع إسرائيل من مواصلة التوسّع الاستيطاني من دون أي تقدّم نحو حل النزاع”!
إنها لا صفقة، أو بالتحديد استكشاف أولي بألاعيب مبهرة للأرض التي ستقوم عليها الصفقة الحقيقية المقبلة!
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2Iwqc1Z
via IFTTT
0 comments: