أحدثت خطوة النائب العام المالي يوم 6/3/2020 بوضع إشارة «منع تصرف» على 21 مصرفاً لبنانياً بأصولهـــــا أي موجوداتهـــا كافــــة بمــــا في ذلك الأمـوال المنقولـــة وغير المنقولة ثم «تجميد» النائب العام التمييزي لهذه الخطوة، التي أطلق عليها وصف «تدبير إداري» وتحفّظ عن البحث في مدى صوابيتها أو عدم صوابيتها، بلبلة كبيرة في الأوساط كافة. ولما رحّب بعض الناس بخطوة النائب العام المالي واعتبروه بطلاً فكان من الطبيعي أن يصدمهم تجميدها.
ان الخوض في مسألة مدى صوابية خطوة النائب العام المالي وخطوة تجميدها هو قانوني الطابع وكان من الواجب إنارة الجمهور عنها لانها تتعلق بجوهر حكم القانون. وفي المبدأ فإنه لا يجوز لأي قاضٍ مهما علا شأنه أن يخطو أية خطوة دون تعليل ولا سيّما إذا كانت تمسّ الحقوق والحريات. لكن الناس يهتمون بالوقائع التي يستطيعون هضمها أكثر من القوانين التي قلّما يستوعبون أحكامها. لا سيّما وإن المسألة المطروحة هي من هو المسؤول عن الحالة المالية والنقدية التي وصلت إليها البلاد وتؤلف تهديداً خطيراً لحقوق عامة الشعب وما هو سبيل التصدّي له ومعالجته.
فلا بدّ أولاً من عرض الوقائع الثابتة والتي يعرفها كل لبناني وكل مقيم في لبنان أو لا بدّ من التذكير بها.
في مطلع التسعينات اعتمدت الدولة اللبنانية نهج الاستدانة لتمويل الانفاق العام بكل ما يزيد عن وارداتها. أي أنها بدأت، بحسب التعبير العامي المعروف، بمدّ رجليها خارج حدود بساطها. فإرتفع الدين العام خلال الثلاثين سنة المنصرمة من صفر الى ما يناهز المائة مليار دولار. واتخذت الاستدانة شكل إصدار السندات بفوائد أعلى من الفوائد المتداولة في السوق. وفي البدء كانت السندات تصدر بالليرة اللبنانية ثم خطر لبعض العباقرة اصدارها بالدولار الأميركي بفائدة أدنى من الفائدة التي تحملها السندات بالليرة وذلك على سبيل التوفير.
وبالنظر للجاذبية التي تشعّها الفوائد المرتفعة، وبتشجيع من وزارة المالية ومصرف لبنان، أقبلت المصارف على الاكتتاب بسندات الدولة اللبنانية كما واكتتب بها مصرف لبنان. كما اكتتب بها بعض الناس والمؤسسات في لبنان والخارج.
ولو كانت الدولة اللبنانية شخصاً عادياً أو شركة خاصة ترغب في الاستدانة من مصرف لأوجب عليها المصرف أن تبيّن له أولاً وجه استعمال الدين وثانياً مصادر الأموال التي سوف تستعمل من أجل إيفائه. وعلى سبيل المثال فلو كان مالك أرض بحاجة لأموال لانفاقها للبناء عليه لكان المصرف طلب إليه بيان كيف ستدخل الى المالك من المشروع أموال كافية لإيفاء القرض وفوائده خلال فترة زمنية محددة يوافق عليها المصرف ويقتنع بها قبل تسليم الأموال.
لكن، وفي الحالة الحاضرة، ولما لم يكن المدين شخصاً عادياً أو شركة خاصة بل هو دولة ذات سيادة، فإنه لم يخطر له على بال التفكير بما هي وجوه الانفاق التي اقترض المال من أجله ولا كيف ينتج بهذا الانفاق مالاً يكفي لسداد الدين.
إذن، وبكل بساطة، فإن الدولة اللبنانية استدانت واستدانت دون أي حدود من أجل تمويل انفاق عام لا يتولد عنه أي ناتج مالي يكفي لإيفاء الدين. أي ان الأموال التي تمّت استدانتها وانفاقها ذهبت هباءً منثوراً.
ولما كانت الأموال التي استعملتها المصارف اللبنانية عامة ومصرف لبنان خاصة ليست من أموالها الخاصة بل ان مصدرها هو ايداعات عامة الناس في الحسابات المصرفية، ولم يعد المدين، الذي هو الدولة اللبنانية، قادراً على إيفائها، فإن ذلك يعني بكل بساطة ان المصارف اللبنانية وقعت في خسائر كبيرة أدّت الى عجزها عن رد الودائع التي يوجب القانون (المادة 307 من قانون التجارة) عليها ردّها لأصحابها عند أول طلب منهم.
وبكل اختصار، فإن الدولة اللبنانية أنفقت الأموال التي استدانتها من المصارف في شكـــل سندات لا سبيل لها لإيفائها، مما أدّى الى عدم قدرة المصارف على سداد أموال المودعيــــن لديها ويؤلف حالة تعثّر يتشارك في تحمّل مسؤوليتها المعنوية بل والقانونية على التوالي:
أولاً: الدولة اللبنانية وكل مسؤول فيها شارك بصفة وزير أو نائب أو موظف كبير أو مستشار أو أية صفة أخرى في كتابة وإصدار القوانين التي أجازت إطلاق السندات منذ العام 1991 وحتى اليوم. وبالطبع فإن الدولة اللبنانية تشمل مصرف لبنان الذي هو جزء لا يتجزأ منها ويحمل تفويضها بالاشراف على القطاع المصرفي وشؤون النقد والتسليف كافة وحاكمه وكبار المسؤولين فيه.
ثانياً: المصارف وكل مسؤول فيها شارك في صنع قرار استثمار أموال المودعين في سندات الخزينة دون أن تكون الحكومة تملك برنامجاً يعطيها القدرة على إيفائها في مواعيدها أصلاً وفائدة.
ثالثاً: سائر المستثمرين في سندات الخزينة من الذين أعماهم الطمع عن عواقب شراء سندات بفوائد مرتفعة دون أن يملك المدين سبيلاً لإيفائها.
وان القاسم المشترك بينهم جميعاً هو الطمع المفرط المقترن بالغباء المفرط،، وهو ما لا يجوز تحميل نتائجه لعامة الناس بل يتوجب تحميل المسؤولية عنه لمن أصيب به أو مارسه.
والحقيقة هي ان ودائع الناس في المصارف قد تبخّرت في جزء كبير منها دون أن يقول لهم المسؤولون السياسيون مدى الخسائر التي أصابتهم أو سيعلن عنها.
وان كل ما فعلته الحكومات السابقة والحكومة الحالية والمصارف اللبنانية ومصرف لبنان منذ تشرين الأول 2019 وحتى اليوم هو تأخير إعلام الشعب بهذه الحقيقة بتوسل أنواع الخداع كافة.
وان المدخل لمعالجة هذه الأزمة/ المأساة هو تحميل المسؤولية لمن يجب أن يتحمّلها عن طريق الاخلاص النزيه لحكم القانون وبإحترام القوانين اللبنانية السارية المفعول وتطبيقها بأمانة. وهذا ما يستوجب وجود قضاة أكفّاء وشجعان من ذوي الأيدي النظيفة في نظام قضائي هو غير هذا النظام.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2THdvGK
via IFTTT
0 comments: