Wednesday, February 19, 2020

بانتظار عملية زرع وطن

“ليبانون ديبايت” – روني ألفا

على ذمّة الصيادِلَة والأطباء النفسيين. إرتِفاعٌ مُطّرد في مبيعات أدوِيَة الأعصاب. تكاد تضاهي مبيعات ربطات الخبز وحليب الرُضَّع. ظاهِرَة تَموين تجتاحُ البيوت اللبنانية. في النمليَّة تتربّعُ هذه الحناجير المسطِّلَة للوعي قبل مجامع الكِشك وغالونات الزّيت وأطرميز كبيس اللفت . لنا شخصيّاً حصّة من هذه الظاهرة. منذ حوالي ثلاثة أشهُر وصَفَ لي طبيب صديق إحدى أحدَث هذه الحبوب بعد أن أسرّيتُ له إني أعاني من الأرَق. ما أن تُبادِر إلى احتِضان مخدّتِكَ في محاولة حثيثة للنوم يهجم عليك هذا الغول العجيب. نِصف حبّة قبل الخلود إلى الفراش على معدة معتدلة التخمة. في ظهيرة ذلك اليوم الذي شهد بداية إدماني هذا العقار كان عليّ أن أودِع هاتفي الجوّال لدى أحد الأخصائيين في المنطقة للفَرمَتَة. محو ذاكِرَة الهاتِف من الفيروسات وتنشيط ذكورَة الخَلوي بما يتيح قيامه بالواجب.

على ” الكومودينا ” مجموعة من الأدوية المختصّة بالكولسترول والسكّري. انضمّ إليها حديثاً هذا الدواء والذي دفعتني رغبتي الجامحة في النوم الهنيء إلى مخالفة وصفة الطبيب في استهلاكه. اجترعتُ منه طائعاً مختاراً حبّةً كاملة. حبّة بحجم حبّة العدس بَطَحت أرَقي فنمت كالقتيل. لم أحظَ بغَطيطٍ عميق كمثل غطيطي في تلك الليلة. غَلبني النعاس فنمتُ كالأطفال دون أن تُذبَح لأَرَقي رَندَحَة طَير الحمام. كان عليّ أن أستَعيد هاتفي الجوّال في اليوم التالي من دكّانة الصيانة. طامةٌ كبرى. أين محلّ الصيانة؟ لا بالحلال ولا بالحرام استطعت صبيحة ذلك اليوم تذكّر العنوان المطلوب. فجوة مخيفة في الذاكرة. ” حِزِّك مِزِّك ” على مدى ثلاث ساعات في محيط المنزل في محاولة يائسة لإيجاد المحلّ الذي أودعت فيه هاتفي. تَجوال عَدَمي بحثاً عن الجوّال.

كان عليّ التوقف أمام كل حوانيت التصليح في المحيط وجردها ” عن أبو جَنَب “. محاولات متكررة للإحتيال على ذاكرتي. بعد جهد جهيد رصدت الهدف ونجحت في استعادة ضالّتي. حذَّرني الطبيب في ذلك اليوم من عواقب مخالفة المقادير تحت خطر فقدان مؤقت للذاكرة واحتمال نسيان أسماء العلَم والمواعيد. لا أخفي بأني استطيبتُ فقدان ذاكرتي في ذلك اليوم. تخيّل أن تنسى أسماء رجال السياسة. أن تنسى ارتكاباتِهم. أن تعيش كأنهم ليسوا على تماس مع يأسِكَ وقنوطِك. حبّة لمحو الحقد على الفظائع التي جنتها أيديهم. ذاكرة جماعية بحاجة ماسّة إلى كَنس وشَطف. فَرمَتَة لمعنوياتِنا وغسيل لبقايا الإحباط العالقة على جدران الذاكرة الجامعيّة.

الشعب بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مُستَحضَر هو مزيجٌ من ألزهايمر وخَرَف ونشاف شرايين وهذيان كوصفة ناجعة للإستمرار في وطن باتَ فيه الوعي مرادفاً للمأساة. المنوّمات باتت جزءاً من محاربة الفساد ومن وعود الإصلاح. أن ترفض ذاكرتك الإحتفاظ بالمَقيت والبشع هو أن تتمتّع بمناعة قوميّة وتفاؤل وطني. منوّمات تمحي مفاعيل الهيركات والكابيتول كونترول والعجز في ميزان المدفوعات ونقص السيولة الدولارية. تسطيلٌ ممنهج للمعنويات حتى لا تتيقّن ماذا يصيبها من مآسٍ يوميّة. عقاقير ضدّ البطالة والهجرة والخشية من المرض وقسط المدرسة والإرتفاع الجنوني في الأسعار. مع تطوير البحوث في مختبرات الأدوية سيصبح من الممكن في المستقبل إختراع عمليات زرع ذاكرة خلَنج. ذاكِرة وطنية مستَنسَخَة عن بلد آخَر.

كم جميلٌ أن نصحو في يوم من الأيام مزوّدين بذاكرة مواطن سويسري أو نَروجي أو حتّى بذاكرة مواطِن في رواندا. ذاكرة أي مواطِن في العالم أفضل من ذاكرتنا. ذاكرة أي حيوان أليف قد تَفي بالغرض نظراً إلى فداحَة إنسانيَّتِنا. سيصبح بإمكاننا العيش في جحيمٍ لبناني إنما بذاكرةِ نعيمِ أيِّ بلدٍ آخَر. الشعب اللبناني ينتظر بفارغ الصبر إجراء عمليات زرع ذاكِرَة. تخيّلوا بنوك للذاكرة على شاكلة بنك الدم والكِلَى والبويضة والسائل المنوي. إستئصال ذاكرتنا الجماعية المسرطَنَة من شروط التعافي. في ظلّ إستحالة زرع وطن سيكون علينا أن نستفيد من هكذا عمليات حتى لا نموت ” فَقعاً “.



from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/39SbA8W
via IFTTT

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل