“ليبانون ديبايت” – علي الحسيني
هي ليلةٌ “ثوريّةٌ” بامتياز تخطَّت حدود العمل الميداني وملحقاته مع ما يتطلَّبه النزول على الأرضِ من تحضيراتٍ نفسيّةٍ وجسديّةٍ. دفء المكان طغى على ما عداه من أحاديثٍ سياسيّةٍ أو حواراتٍ بين مجموعة شبان وفتيات تجمّعوا حول سهرة نارية كان لصوتِ الأخشاب فيها وهي تتحوّل إلى جمرٍ، أشبه بمعزوفةٍ على آلةِ ناي مصنوعةٌ من القصبِ. جمرٌ انعكسَ وهجه في عيون الحاضرين ورافقت ألوانه أغاني واناشيد الشيخ إمام والسيد درويش مع ما تيسَّر منها لمارسيل خليفة ربما لإبعادِ الصبغةِ الحزبيّةِ عن الجلسةِ أو لأسبابٍ أخرى تحت شعار “كلّن يعني كلّن”.
في تلك الليلة من ساحة الشهداء، لم يُتّخذ أي قرار بالتصعيدِ أو المواجهةِ، ولا حتّى توجيه عبارات مُسيئة وإطلاق شعارات سياسية ضد السلطة، وحدها صرخة “ثورة” كانت تخرج مداورة بين الحين والآخر من حناجر أفرادِ المجموعة، أما القرار الأنسب بالإتفاق بين المُشرفين على سهرة النار والحاضرين، فقد تجلّى بصبِّ الإهتمام على الحوار والمناقشة وتهيئة الجميع لـ”أصعب” سؤال يُمكن أن يواجهه أيّ فردٍ منهم، “ليش أنت هون”. وبطبيعةِ الحال، الشرح هنا يطول، لكن اختصاره ينصب على “وقاحة السلطة وفجورها وهدرها وفسادها”. ودائمًا على قاعدة “كلّن يعني كلّن”.
عيون الحاضرين في المكان تراقب بعضها البعض، ومنهم من يبحث عن رفقةٍ أو صداقةٍ أو عن وجوهٍ يُمكن أن يكون على معرفة فيها. تمامًا كما يوجد من يبحث عن حلٍّ لمشاكله الحياتية والاجتماعية، أو أنه يرى في هذه التجمعات المكان الأنسب للتنفيسِ عن غضبهِ ووجعهِ، والأبرز أنّه وسط ضجيج الحوار الجامع والصاخب نتيجة تحوّله في أوقات متفرقة إلى نقاشاتٍ فردية جانبية كانت تضيع فيه الشروحات والإرشادات، يبدو أنّ ثمة من عثرَ أخيرًا على حبّه في المكان، فهنا أيضًا يوجد لغة خاصة بالعيون وبنظراتِ دفءٍ تطغى على حرارة نيران الموقدة.
على ضفّة هذا الضجيج تنسحب مجموعة من الشبان بشكلٍ “تكتيكيٍّ” وكأنها في حالة حرب أو في مهمة أمنية لرصدِ هدفٍ ما وتدوين حركته وكل المعلومات المتعلقة به. هي فتاة لا تتجاوز العشرين من عمرها ويبدو أنّ فردًا من هذه المجموعة قد وقع أسير حبّها خلال تمايلها على اغنية “افلت كلابك في الشوارع”. نعم فالحب والعشق إلى جانب النقاشِ هنا مسموحٌ به لمن يجد في نفسهِ الصفاتِ المقبولة أو الشروط اللازمة. واللافت، أنّ أفراد المجموعة، تقلَّدوا في لباسهم ومظهرهم وحتّى مشيتهم، رموزًا ثورية أتى التاريخ على ذكرها، ومن يعلم قد يكون أحد هذه الرموز مرَّ من هنا ذات يوم أو ربما أُعجِبَ بإحداهنّ بالطريقة نفسها.
انسحاب مجموعة الشبان من الحلقةِ جاءَ بعد رصدِ أحدهم “أبو علي” أثناء مروره بجانب حلقة النار، وأبو علي هذا بدا من خلال مظهره الخارجي وكأنه قائد عسكري خرج للتو من إحدى معاركه كان برفقة شخص يُدعى خليل. جميع أفراد المجموعة وقفوا عند رأي “القائد” طالبين النصيحة منه بعدما عبّر له أحدهم عن اعجابه الكبير بتلك الفتاة واستعداده للقيام بأي شيء للفوز بها، وطالما أنّ كلمة أبو علي مسموعة هنا، اقترح بذهاب الشاب فورًا وبشكل مباشر نحو “الهدف” وتخطيّه لحظة الخوفِ بعدما فضحته خفقات قلبه المسموعة رغم ضجيج الأناشيد والحوارات.
الخطوة في لحظتها تتحوَّل إلى قرارٍ مصيريٍّ بالنسبة إلى الشاب العاشق، والاستعداد للقيام بها بحسب نصيحة أبو علي قد يُكلّفه غاليًا في حال رفض الطرف الأخر، وهذا يُمكن أن يؤدي إلى كسر هيبته ومعنوياته أمام “الرفاق”، لكن وبشكل مُفاجئ ظهر أنّ الشاب قد استعدّ تمامًا للقيام بنصيحة “القائد” والتقدم نحو الهدف، وإذ بإرشاداتِ ونصائحِ سمير سكاف (أحد المنظرين في الحَراكِ) تصدح مجددًا عبر مكبّر الصوت فيختلّ معها توازن الشاب مجددًا إذ راحَ يُبطِئ من ايقاع خطواته وبدأ يتراجع إلى الوراء ريثما تهدأ الأمور ويعود صوت الشيخ إمام أو السيّد درويش فيستعيد معهما حماسته.
بين انتظار عودة الأناشيد مع محاولة استعادة لغة العيون مجددًا وبين أصوات أصحاب الإرشادات والنصائح المتعاقبة لكلّ من خليل وسمير سكاف وندى آغا، إذ بطيف الفتاة يغيب عن الحضور ويحتل مكانه الندم والضجر في قلب الشاب ولوم الأصدقاء و”القائد” له. “هيك أظبط” يقول الشاب الذي قرَّرَ الانتظار حتّى يوم آخر علّه ينجح في توفير معلومات إضافية حول هدفه بعملية رصد جديّة، فردية كانت أو بمعاونة أفراد المجموعة.
وعلى وتر الدفء نفسه وإلى جانب الثورة ومطالبها والتضحيات التي تُبذل في سبيل تحقيق أدنى المطالب، ثمة فُسحة للحب لا بأس بها تمتد على مساحة مكان الاعتصام داخل الخيم وخارجها أو حتّى في أمكنةٍ هادئةٍ لا يصلها صوت سكاف وآغا ولا حتّى مناوشات وشغب البعض. هناك شابٌ يُمسك بيد حبيبتهِ فتتحوَّل النجوم والسماء في لحظتها الى ملكٍ خاص.
يوشك النعاس على التسلّل الى عيون الجميع، البعض يقرّر الانسحاب باتجاه الخيم والبعض الآخر يُفضّل المغادرة، وحدها مجموعة صغيرة قرَّرَت تناول العصير في محلٍ قريبٍ من وزارة المالية. العاملُ هناك شابٌ من التابعية السورية يُباغته أحدهم بسؤال عن الفرق بين الثورة في لبنان وتلك التي تحصل في سوريا. يستعيد الشاب أنفاسه بعد تلعثم ليقول، “لديكم هنا ميزة هامّة هي الطوائف، فهذه نعمة لأنها تمنع سلطتكم من سحقكم خوفًا من زعمائكم وأحزابكم، على عكس بلدنا حيث سُحقنا جميعًا تحت حجّة أننا سوريون متمرِّدون وأنّ هذا شأنٌ داخليٌّ.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2ubMlPC
via IFTTT
0 comments: