“ليبانون ديبايت” – روني ألفا
أسوأُ أنواع الإصابات في معنوياتِ الشعوب تلك التي تصيبُ فسحة الأمل. إصابةٌ في المقتل وعطبُها غير قابل للترميم. تنظرُ إلى وجوهِ اللبنانيين فترى فيها شبحَ الفراغ. كأنهم ينتظرون بفارغِ الخوف قدومَ وحشٍ بشريٍّ بوشاحٍ أبيض وفي يده منجلٌ حصَّادٌ للأرواح. ملاكٌ مَلعونٌ مِن فصيلةِ عزرائيل متخصّصٌ في قتلِ الأوطان.
اللبنانيُّ ينتَظِرُ مقبرتَه الموحشةَ بهدوء. حتّى مِن دون صَحوَة مَوت. حكّامُه أفقَدوه غريزةَ البقاء. صار متيقِّناً أن خطواته ستستقرُّ في عمائقِ الحفرةِ التي سيُلقى فيها . يحتَضِنُ قدَرَه كأنَّ قدَرَه من لدنِه. جعلَ حكّامُه منه مواطناً برسم اليأس. أحاديثُه صارت محصورةً بأسعارِ الفاكِهةِ والخضار. فوزُه المُبينُ باتَ يكمنُ في العودة من الحانوت بكيسٍ فيه ما تيسّرَ من المأكلِ والمَشرَب . صارَ الشّبَعُ من الإنجازاتِ الضخمة في يوميّاته الرّتيبة. يعيشُ اللبنانيُّ مِن دون أحلامٍ حقيقية. ينتَظِرُ ألّا ينتَظِر. تمَّ حذفُ ظاهرةِ التفاؤل مِن تلافيفِ دماغه. فقَدَ النكهَةَ بالحياة. صارَ موجوداً فقط.
مِن التعديلاتِ الجينيّةِ التي أصابتنا أننا بتنا نشبِهُ حقائبَنا. في داخِلِنا خِرَقٌ بالية وفِي خارِجِنا جُلود. سحّاباتُنا مُحكَمَةُ الإغلاق بأقفالٍ غليظةٍ مرمَّزَة. لا يُمكِنُ فَتحُنا مِن دون خَلع. حوَّلونا إلى مخلوقاتٍ مكوَّنةٍ مِن دَقيقِ الهجرةِ وَطحين البهدلة. تعلّمنا في كتبِ المدرسة عشقَ الوطن. وطني أنا هنا. حدِّق أتذكرُ مَن أنا. علّمتْنا كتُبُ السياسةِ كيف تذلُّنا الهجرة. وطني لستُ هنا. لا تحدِّق. لا تذكُر مَن أنا. عندما يفقدُ الإنسانُ حَنينَه إلى وطنِه يتزوّجُ من أي وطنٍ آخَر. من أيِّ قريةٍ في أيِّ قارّة. يتعلّمُ محبّةَ الغربةِ وصمتَ المسافات. مع الوقت يتحوّلُ بلدُه إلى خبرٍ تافهٍ في إذاعة. يصيرُ مسقِطُ رَأْسِه حيثُ يتعلّم أولادُه أن يرفعوا رؤوسَهُم.
أن تعيشَ في بلدٍ مسروق. تجربةٌ أشدُّ قساوةً من خَوضِ الحرب. إبانَ الحرب يمكنُ أن تختبئ. بقليلٍ من الحظ يمكنك تجنّبَ قذيفةٍ من العيار الثقيل في ملجأ محصّن. أين تتحصّنُ من الحَرامي؟ . دولةٌ بأمِّها وأبيها، مَن ” الطَّقطَق ” إلى ” السّلام عليكُم ” مملوكةٌ مِن عِصابة. تَخالُها دولةً فيتبيَّنُ أنها ماخور. يلاحقُك رجلُ الأمنِ حتى فِلس الأرملة . تابوتُك إذا فَصَلتَ سِعرَه تراهُ مُفَوتَراً مع ضريبةٍ على القيمةِ المُضافة. في الماخورِ زمرةٌ مخمورةٌ بنبيذِ النّهب. محميّةٌ مِن رجلِ الأمنِ نفسه. في بلدكَ، أنتَ مُواطِنٌ مكلَّف. مخلوقٌ ضرائبيٌّ صرف. إذا حدثَ أن استحوذتَ على دفترِ توفيرٍ يصادرون الدفترَ ويتركونَ لكَ التَّوفير. أموالُك في المصرف تشبِهُ سجيناً إسمُه فلان ورقمُه كَذا. زيارتُه مُتاحةٌ لكَ مرّةً في الأسبوع وعبرَ الزجاج العازل.
مَن قرَّر مِنّا البقاء سيتحوّلُ إلى متسوّل. كلُّ الرؤيا الإنقاذية المتداولةُ اليوم مبنيةٌ على التسوّل. ليس هناك فرقٌ بين الشحّاذ الذي يقرع زجاج سيارتك وبين الدولة التي تتسوّل وديعة. وديعةٌ سعودية أو قطرية أو أوروبية. في نهاية النهار يعطي صبيةُ الطريق غلَّتهم لمشغِّلِهِم. الدولة أيضاً. غلَّتُها لمشغِّليها تجّار الأديان. هكذا تصبحُ أنتَ بالغَصْبِ شحّاذاً. دولةٌ متسوّلةٌ تستعطي مواطنين هم بدورهم يشحذون المِلح. انتزعتِ الدولةُ مِنّا شعورَ الكرامة. الإعتزازُ بالإنتماء إلى الوطن استبدلته بالإنتسابِ إلى نقابةِ المتسوّلين. صرنا نخجلُ بجواز سفرنا. نخجلُ من أنفسنا لأننا نخجلُ به. إحباطٌ لم تعد مهدئاتُ الأعصابِ العادية تكفي لعلاجِ عوارضه. صرنا بِحاجةٍ إلى بنجٍ عموميٍ أو تنويمٍ مغناطيسي.
إعادة تدوير. منذ أيام أفضَلَ عليَّ معمَلٌ لتدوير الورق والكرتون بحرق حوالي ألف نسخة من ديواني لسببين: الكَساد في تعاطي الشِّعر ورطوبة المستودع. الشعرُ صار خارجَ التداول في زمن ” يا هَلا بالخميس “. إعادةُ تدوير وطن. تجميعُ أوصالِه في بورةٍ صحيةٍ وحرقُه. وطنٌ جديدٌ سيخرج من الصَّهر مِن دون أصهِرة ولا عِدلان. مِن دون أحفاد وأبناء وأقارب لَزَم. وطنٌ جميلٌ كالغزلان. نظيفٌ كالثلج. متوهّجٌ كالشمس ومزركشٌ بمحبة أبنائه. صوته قادرٌ على مناداةِ أولادِه في الغربة. إستدرار دمعة شوق واحدة مِن أجل لبنان. هي أم المعارك.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2us2jp3
via IFTTT
0 comments: