أنديرا مطر – منذ بروز الازمة المالية الاقتصادية في لبنان راح كثير من المصرفيين والسياسيين يروّجون لنظرية أن على اللبناني ان يعتاد على نمط آخر من العيش، يختلف عن السابق، ولا يتجاوز قدرته الشرائية. في ما يبدو تمهيدا لاقناع اللبنانيين بالرضوخ لاجراءات أشد قساوة يجري العمل عليها. فإذا كانت المصارف اللبنانية هي التي أخمدت انتفاضة اللبنانيين واعادتهم الى منازلهم مشغولين بهَمٍّ أساسٍ على ودائعهم، فهل يكون انهيار القطاع المصرفي واقتراب مؤشرات الجوع والعوز، السبب في اعادتهم الى الشارع، ولكن بشكل أعنف وأشمل هذه المرة؟! ازدحمت ردهة الانتظار في أحد فروع مصرف لبناني بالزبائن المنتظرين أدوارهم للوصول الى «الكونتوار» لسحب مبلغ ضئيل عشية عيد الميلاد، حتى إن بعضهم انتظروا في الباحة الخارجية للمصرف، ما اضطر رجال الدرك «المولجين» حماية المصارف الى تنظيم الازدحام بخبرتهم الأمنية. داخل المصرف مشهد آخر لصفوف المودعين المنتظرين دورهم.. سيدة ستينية حضرت قبل ان يفتح المصرف ابوابه تسجي الوقت بأحاديث تبدد ملل الانتظار. تقول إن ازدحام الناس على ابواب المصارف ذكّرها بمرحلة الحرب اللبنانية حين كانوا يصطفّون طوابيرَ على أبواب الجمعيات الخيرية، التي كانت تتبرّع للمحتاجين بـ«إعاشة». والإعاشة مصطلح ارتبط بزمن الحرب، وهي عبارة عن مؤونة غذائية تتضمن بعض المُعلّبات وأكياس الحبوب، بما يكفي العائلة لأيام. وتضيف: «كنا نحضر قبل شروق الشمس لكي ننال حصتنا، ولكن الحظ لم يكن حليفنا دائما. فحين كان يصل الدور إليّ بعد طول انتظار بذُلٍّ، تخرج مسؤولة الجمعية لتعلمني «خلص اليوم. انتهينا. احضري غدا». هكذا باتت تتعامل المصارف مع المودعين.. «اللي سبق شم الحبق» يقول موظف المصرف للمنتظرين أمام آلة سحب النقود التي تفرغ بسرعة جنونية، فيعود الزبائن خائبين. مشاكل وتدابير لا يخلو يوم من مشاكل، بعضها موثّق بالصوت والصورة بين موظفي المصارف ومواطنين رضخوا رغما عنهم لاجراءات قاسية، فرضت عليهم. ومع ارتفاع حدة الازمة يخشى من حوادث امنية خطيرة قد يشهدها هذا القطاع بفعل الفوضى والاستنسابية التي تتعامل بها المصارف مع المواطنين. وبات البعض يخشى من حدوث إشكال أمني قد يؤدي الى إقفال المصارف بحجة الحفاظ على سلامة الزبائن والموظفين. ومنذ اتساع الازمة، ومع بدء فقدان العملة الصعبة من الاسواق، عمدت جمعية المصارف الى اتخاذ مجموعة تدابير ليعمل بها القطاع المصرفي في المرحلة الراهنة، ومنها تحديد المبالغ النقدية الممكن سحبها بمعدل ألف دولار أميركي كحد اقصى أسبوعيا لأصحاب الحسابات الجارية بالدولار، وحصر التحويلات الى الخارج لتغطية النفقات الشخصية الملحّة. وقبل ان يجف حبر هذه الاجراءات، سجلت مخالفات واضحة من معظم المصارف لقرار الجمعية، فلم يلتزم معظم المصارف بالسقف المحدد، وعمد بعضها الى تحديد السقف بــ300 دولار اسبوعيا، في وقت مصارف اخرى بدأت بــ400 لتعود الى تخفيضه الى النصف، لأصحاب الحسابات التي تقل قيمتها عن 300 الف دولار. اما التحويل الى الخارج لاسباب ملحّة فيعود للمصرف استنساب مدى الإلحاح. على سبيل المثال، رفض المصرف الذي اتعامل معه اعطائي مبلغا لتغطية نفقات سفري، مكتفيا بمبلغ «الـ300 دولار» الاسبوعي، علما بأن بطاقة الائتمان لا تعمل في الخارج، ولا يمكنني السحب عبرها، وعندما أبديت اعتراضي على الامر قالت الموظفة بكل برود «هذه تدابير لابقاء الاموال في الداخل». الى لائحة التجاوزات امتنعت المصارف عن دفع قيمة الشيكات للزبائن مصرّة على وضعها في الحساب، علما بأن بعض المواطنين يحملون شيكات، وهم لا يملكون حسابات مصرفية. عدد غير قليل من الموظفين اشتكى من تمنّع المصارف عن تسليمهم رواتبهم «الموطّنة» لديها، لا سيما تلك المحوّلة بالدولار. وبعضها عمد الى اجبار الموظفين على سحب رواتبهم بالليرة على أساس السعر الرسمي الذي هو 1507 ليرات مقابل الدولار، علمًا بأن حسابات التوطين بالدولار وليست بالليرة. وغير خفي أن هذه الاجراءات المصرفية من تخفيض سقف السحوبات الى منع التحويل الى الخارج يسري على صغار المودعين، لأن كبار المودعين لديهم من الحظوة والنفوذ ما يجعل ادارة المصرف ترضخ لرغباتهم. دولة ضمن الدولة قبل يومين كتب ساطع نور الدين في موقع المدن مقالا تحت عنوان «المصارف التي اخمدت ثورة» وجاء فيه: «أحد أهم الاكتشافات التي جرى التوصّل اليها خلال الايام الــ65 الماضية من عمر الثورة، لا سيما من جانب الجهلة في علوم الاقتصاد وفنون المال والاعمال، أن المصارف اللبنانية هي بالفعل، دولة ضمن الدولة، وهي أقوى بما لا يقاس من الدولة المفترضة .. وأهم بكثير من الدولة التي بناها حزب الله». ودولة المصارف هذه تحصي 62 مصرفا، ما يجعل لبنان الاول في العالم في عدد المصارف وفق الباحث جواد عدرة، خاصة اذا اخذنا عدد السكان وحجم اقتصاده بعين الاعتبار او حتى من دون ذلك. استنزاف الاحتياطيات سؤال واحد بات يؤرّق اللبنانيين بمعظمهم: هل خسرنا ودائعنا؟ والى متى الانصياع لسياسات المصارف المجحفة ؟ وهل توقّف هذه الاجراءات انهيار القطاع المصرفي ام تؤجّلها فحسب؟ تقول الخبيرة الاقتصادية خرّيجة جامعة كامبردج ديمة كريم ل «القبس» أن ازمة لبنان ليست نقدية او مالية، بل هي مشكلة متشعّبة ومتداخلة، تعبّر عن أزمة سياسية مالية في بنية كل النظام الاقتصادي والسياسي. Volume 0% فالنظام الاقتصادي قائم على استقطاب الدولارات من الخارج، ومن قطاعات غير منتجة لا تخلق فرص عمل، كما ان جزءًا منها هو للحفاظ على سعر الصرف، خصوصا بالسياسات المالية التي أقرت بعد اتفاق الطائف. ازاء الازمات المالية التي تواجه هذا النظام كان يجري غالبا اللجوء الى مؤتمرات الدعم الدولية، على غرار مؤتمرات باريس 1، 2، و3. لا شك في ان لبنان يواجه اليوم مشكلة أعمق واكبر. وأحد اسباب استفحال هذه الازمة هو الصلة العضوية والوثيقة بين بنية لبنان السياسية والاقتصادية، بما يلغي التمايز بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي، لا سيما أن 40% من هذا القطاع مملوك من سياسيين أو عائلاتهم. وفق كريم، بدأت ملامح الأزمة في 2011 وتصاعدت تدريجيا. عجز في ميزان المدفوعات (يُقدر العجز التراكمي بين عامَي 2011 وسبتمبر 2019، بنحو 22.5 مليار دولار) وعدم قدرة على استقطاب أموال من الخارج، الأمر الذي أدى إلى استنزاف الاحتياطيات بالعملات الأجنبية. إزاء هذا الواقع، لم تُقدِم الحكومات المتعاقبة على أي تغيير في بنية النموذج الاقتصادي لتحفيز القطاعات المنتجة أو للانفاق بشكل مجدٍ على قطاعَي الزراعة والصناعة. ما حصل هو محاولة من البنك المركزي لاستباق الأزمة النقدية ترجم بهندسات مالية أجراها مع عدد من المصارف، يدفع عبرها فوائد مرتفعة على الاموال المتدفقة من الخارج للمصارف مقابل إعطائهم ليرة لبنانية. سياسات ترقيعية تلفت الخبيرة الاقتصادية الى ان أزمة شحّ الدولار ظهرت قبيل اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر فبرز سوق موازٍ لصرف الدولار، وشهدنا اضرابات لقطاعات حيوية، مثل الفيول والافران وغيرهما. الدولار بات مفقودا بسبب ازمة تراكمية بدأت بــ 2011، ولم يجر التعامل معها بشكل تدريجي، وانما بسياسات ترقيعية تعول، كالمعتاد، على القروض والودائع الخارجية التي تقرها مؤتمرات الدعم. والواقع ان هذا الامر لم يعد متاحًا اليوم. فلا المجتمع الدولي في وارد تقديم المزيد من المال ولا الدولة اللبنانية نفّذت الاصلاحات المطلوبة منها. ووصلنا الى ازمة مالية عميقة معطوفة هذه المرة على أزمة سياسية حادة. شراء الوقت لا ينفع تشدّد ديمة كريم على ان السؤال ليس في مدى قدرة هذه الاجراءات على «فرملة» الانهيار او تبطيئه. ما يجب التركيز عليه هو لاقانونية هذه الاجراءات وتحميلها أعباء الازمة على الفئات الفقيرة والمتوسطة. فــ«الكابيتال كنترول» ليس حلا، بل وسيلةً، تمكّن من ضبط تهريب رؤوس الأموال، او الحد منها بشكل عادل. ولكن ما يجري تداوله عن عمليات تهريب اموال الى الخارج تراوحت بين 5 و8 مليارات يناقض هدف «الكابيتال كنترول» وسبب ذلك ان القطاع المصرفي لصيق الصلة بالطبقة الحاكمة. فكل الدول التي مرت بأزمات مالية اعتمدت «الكابيتال كنترول» كإجراء مؤقت، للحد من تهريب رؤوس الامول. وهذا الاجراء يفترض ان يستتبع بإعادة هيكلة للدين العام او «الهير كات» على كبار المودعين. أما الحلّ الجذريّ الطويل الأمد فيقضي ــــ وفق كريم ــــ ايجاد آلية للتخلّص من المصارف المتعثّرة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحويله إلى قطاع نشيط، يستثمر في القطاعات المنتجة، ولا ينمو من خلال أرباحٍ كسولةٍ من دولة مديونة وعاجزة. وتشدّد كريم على عدم تحميل اي معالجة للقطاع المصرفي اعباء اضافية على صغار المودعين. في بلد يمتلك 1 في المئة من سكانه 50 في المئة من الودائع. كلما تأخّرنا في اقرار سياسة مصرفية تحمي الفئات لمتوسطة والفقيرة، باتت الخيارات موجعة أكثر. منطق شراء الوقت والهروب من اي حل جذري يكبِّدنا المزيد من الخسائر: انكماش اقتصادي ونقص في السيولة، وشركات تفلس وتقفل ابوابها، وارتفاع مستوى البطالة.. هذه الكوارث يتحمّل مسؤوليتها القطاع المصرفي بسبب اجراءاته الاستنسابية التي اوصلت الى انكماش اقتصادي أكبر مما هو متوقَّع.
القبس
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/397mmZ7
via IFTTT
0 comments: