

حسن منيمنة/الحرة
تقوم الأوطان على مقومات موضوعية. من أهمها، دون الحصر: وحدة المكان، أو ما يقارب. نظام سياسي قادر على الاستقرار والاستمرار بفعل تجاوبه مع مصالح المواطنين، كإطار منشود، أو بفعل فائض قوة لدى الحاكم، كأمر واقع. وهوية وطنية جامعة، لتكون الرابط الضامن للوحدة عند الاهتزازات.
والهوية الوطنية بدورها قد تكون وليدة تاريخ ضارب في العمق، كما هو الحال في مصر، أو قد تتشكل نتيجة سياسات وتجارب، كما جرى في العراق، والذي أخرج خلال القرن من وجوده ككيان هوية تحدّت ولا تزال توقعات اندثارها.
لبنان، والذي شاء مؤسسوه أن يكون تجربة حداثية متقدمة، تلكأ وتأخر وتخلف عن تحقيق الهوية الوطنية الجامعة، لا لغياب الأرضية الواقعية لبروزها، بل للجدلية التي عاشها ضمن نظامه بين الإقطاعية، الموروثة ثم المتجددة، والتي تسلقت على التجارب التاريخية التي تستحضر الطائفية لتثبيت الانقسامات العامودية، وبين التوجه التلقائي الاجتماعي والثقافي لتعزيز الروابط الأفقية المتجاوزة للطوائف.
وإذا كان المفترض، ضمن الرؤية التأسيسية للبنان أن يكون دور الدولة دعم التواصل بين مكونات المجتمع، وصولا إلى التجاوز التدريجي للطائفية، فإن مصلحة الطبقة الحاكمة المتشكلة، من زعامات مختلف الطوائف، كانت شد العصب الطائفي للمحافظة على حصّتها الآنية في السلطة.
المفارقة المتحققة بالتالي كانت أن مسؤولية تحقيق الدولة الحداثية العصرية كانت ملقاة على المنظومة الإقطاعية التي أعادت التشكل ضمن حدود لبنان الكبير، ومسؤولية التدرج للخروج من البنية الذهنية الطائفية كانت كذلك مناطة بها، في حين أن هذه المنظومة تحتاج إلى الطائفية للبقاء، وبقاؤها بذاته هو نقيض الدولة الحداثية المنشودة.
تاريخ لبنان على مدى القرن الماضي لم يكن بالتالي تاريخ سعي الشريحة السياسية إلى تحقيق الوعد بدولة حداثية، بل سجال بين المتحكمين في جهدهم للمحافظة على الصيغة الموروثة المعدلة، أي الإقطاعية الجديدة، وبين الدفع الآتي من صلب المجتمع باتجاه الربط بين المواطنين على أساس الاعتبارات المصلحية والثقافية والتي تتحدى الفصل الطائفي. لا ينفي هذا التوصيف أن بعض السياسيين اللبنانيين أراد صادقا المساهمة بالخروج من المنطق الإقطاعي الطائفي، غير أن استتباب نظم العلاقات المطلبية الزبائنية وصولا إلى المحاصصة النهبية رجّح السجال ضمن التركيبة اللبنانية لصالح الإقطاعية الطائفية وحدّ من زخم تجلي التواصل الأفقي.
جميع الاحتلالات التي شهدها لبنان استفادت من وهنه نتيجة هذا السجال بين من هم في واقع الحال إقطاعييه وحداثييه لتمتّن مواقعها. آخرها الاختراق الإيراني، والذي عمل على تعزيز الفرز العامودي لما من شأنه أن يكون إحدى أكبر الطوائف اللبنانية، متكأ عليها لحضور متعاظم في طوائف أخرى، وصولا إلى تحقيق حالة جديدة فذّة لاحتلال دون جيش وافد.
تستفيد الهوية الوطنية، في معظم الأوطان، فيما يتعدى مداميك تأسيسها وتعزيزها حجرا حجرا، من لحظات تاريخية جامعة تشكل مرجعية لها في الذاكرة والعاطفة والشعور بالانتماء. لم يكن للبنان لحظة تاريخية من هذا الصنف.
أقرب ما يكون إليها كانت لحظة الاستقلال عام 1943، يوم تسارعت الأحداث لتضع كافة زعامات لبنان في صف واحد. ونزول شباب الكتائب (المسيحيين) والنجادة (المسلمين) إلى الشارع دعما للزعامات الوطنية كان كافيا لبناء سردية وطنية للاستقلال، وإن كانت ضعيفة، مع الإعلان الفعلي لقيام الإقطاعية الجديدة ضمن “الميثاق الوطني”، لتبقى هذه الإقطاعية، المستفيدة من الطائفية رغم زعمها العمل على اجتثاثها، هي عنوان جمهورية الاستقلال، باستثناء ولاية الرئيس فؤاد شهاب.
أما “الجمهورية الثانية”، أو جمهورية الطائف، فقد أتاحت تكريس الإقطاعية والإمعان بها، وصولا إلى التخلي عن زعم السعي إلى التدرج في الخروج من الطائفية، والانتقال من مشروع دولة المواطنة إلى صيغة ائتلاف الطوائف، حيث لكل طائفة كيانيتها القائمة على تمثيل قسري لمن هو مصنّف منها من المواطنين، على أساس “مناصفة” تقدم للطوائف المسيحية حصة مكافئة للطوائف الإسلامية، دون اعتبار عددي، ليصبح الوطن في واقع الحال حلبة صراع بين زعماء الإقطاعيات الطائفية لتقاسم المناهب، علّ قدرا منها يرشح إلى القواعد الموالية والمفروزة عاموديا.
لم يتمكن لبنان “الجمهورية الثانية” من إنتاج اللحظة التاريخية الجامعة. لحظة التحرير في مايو سنة 2000، كان من شأنها أن تكون لحظة وطنية. غير أن مقاومة الاحتلال كانت قد صودرت باتجاه حصرية مانعة. فبدلا من أن يؤسس اندحار المحتل لذاكرة وطنية، جاء ليشكل لحظة تاريخية لتثبيت ما اصطلح على تسميته فيما بعد “بيئة المقاومة”، أي أنه أرسى، قدر إمكانه، وعيا جماعيا شيعيا لبنانيا منفصلا عن الجو الوطني العام. وهذا الوعي إن عمل في مراحل تالية على الانسجام مع سائر الوطن، فمن منطلق المحافظة على الخصوصية، بما في ذلك السلاح والتبعية للخارج، والأخطر، بناء على مزيج ملتبس من الأحقية والمظلومية والاستعلاء والاستقواء.
آذار 2005 شهد إمكانية أن يكون لحظة تاريخية لاستقلال لبناني حقيقي. الساحات شهدت التدفق التلقائي الطوعي للبنانيين من كافة الطوائف والانتماءات. غير أن مُخرج المشهد ومُنتجه كانت أحزاب الإقطاعية وزعاماتها، وإن صدقت في نواياها بلوغ الجديد. ربما.
مع عدم اشتمال تشكيلة الأحزاب هذه على حزب “المقاومة”، بل مع تناقض خياراتها مع ولاءات المقاومة، فإن 2005 لم يشكل لحظة وطنية جامعة، بل لحظة انفصام وطني. وجاء انتقال التيار العوني، العميق في ولائه لزعامته والمؤصل في مقاومته للاحتلال السوري، من صف الاستقلال إلى صف التبعية يكشف وهن آذار 2005 وانعدام صلاحيته كأساس لهوية جامعة.
كان للبنان في مايو 2007 فرصة جديدة، ربما أولى، لتحقيق اللحظة الوطنية المؤسِسة، يوم انتصر الجيش اللبناني، بدماء جنوده من جميع الطوائف، على الإرهاب الموفد من سوريا في مخيم نهر البارد. على أن الاصطفاف السياسي اعترض بروز هذه اللحظة، ليستمر الشحن على أشدّه بين شقي الإقطاعية الطائفية، ومن خلفها الاحتلال الإيراني المختبئ تحت مقاومة أمست قسرية في تعميمها على الوطن وفي تقرير زائف لشعبيتها خارج بيئتها.
وهنا تكن أهمية ثورة تشرين 2019. المجتمع اللبناني المقطع الأوصال، والذي استفاضت الإقطاعية والاحتلال في تشتيته وتشريحه وتفتيته، والذي شهد على مدى قرن كامل اندفاعات متواصلة باتجاه روابط أفقية، وطنية، مصلحية وثقافية، تعرضت تباعا للوءد والإجهاض والسحق، حقّق له فجور الطبقة الحاكمة ما لم ينجزه أي من أصحاب النوايا الطيبة، فكانت ثورته وكان خروجه إشعارا بانتهاء الجمهورية الثانية، والبدء بمسار التأسيس لعقد اجتماعي جديد على أساس المواطنة المعاشة في ساحات الثورة.
هذه الثورة هي اللحظة التاريخية الأهم على الإطلاق في تاريخ لبنان. هي السعي إلى تحقيق الوعد المؤسس للبنان بقيام دولة المواطن. هي استكمال لحداثة منقوصة بفعل مصالح إقطاعية وظّفت الطائفية لتضمن ديمومتها، واحتلالات تماهت مع الإقطاعية لتحقيق أغراضها.
أربعون يوما والرهان على أن تنتهي الثورة بفعل الإنهاك. أربعون يوما من إنكار حقيقتها والإصرار على القناعة بأن الفرز الطائفي الذي استفادت الطبقة الإقطاعية الحاكمة منه قابل لإعادة الإنتاج. أربعون يوما من الترقب من جانب الاحتلال: كيف نجيّر، كيف نمنع، كيف نبطل؟
كل الرصيد المعنوي، وكل الاستثمار التاريخي، وكل التوظيف الإعلامي، وكل التعبئة العصبية، وكل الشعارات الطائفية، تستدعى اليوم لحشد “بيئة المقاومة” بوجه جمهور الثورة، في حين أن هذه البيئة، تلقائيا وموضوعيا هي أيضا حاضنة للثورة. أهل المقاومة هم أيضا أهل الثورة، وإن قيل لهم خلاف ذلك.
لبنان، على أبواب مئويته، يعيش أخطر أيامه على الإطلاق. نتيجة هذه الثورة هي إما أن وعد لبنان كدولة حداثية يسير إلى التحقق بما فيه خير جميع مواطنيه، أو أن تحالف الإقطاع والاحتلال يبدد هذه الفرصة، لصالح طغمة مالية أتخمت بالفساد ولم تشبع، وقوة خارجية تخوض معاركها الوهمية والخاسرة بدماء الآخرين.
from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2XUCmbH
via IFTTT
0 comments: