Saturday, November 30, 2019

الجيش “المتمرّد” يُزيل “الالتباسات”: صفحة جديدة مع السلطة؟

خضر طالب /الرقيب

ما هي خلفيات جولة قائد الجيش السياسية والمالية؟

منذ انطلاق انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين الأول، كانت كل العيون مركّزة على الجيش اللبناني، وكلها طرحت سؤالاً واحداً: كيف سيتعامل الجيش مع هذه الانتفاضة بوجه السلطة، وهو يأتمر بأمر هذه السلطة؟

كثرت المراجعات التأريخية لأداء الجيش في المحطات المفصلية، منذ الاستقلال وحتى اليوم.

في العام 1949، وبعد ثلاث سنوات فقط من جلاء آخر جندي فرنسي عن لبنان، حصلت أول محاولة انقلاب في لبنان ضد عهد بشارة الخوري، نفّذها “الحزب السوري القومي الاجتماعي” بالتعاون مع عدد من ضباط الجيش اللبناني. وقف الجيش يومها إلى جانب السلطة السياسية ضد الانقلاب.

في “ثورة شمعون” العام 1958، وهي كانت ثورة شعبية على عهد رئيس الجمهورية كميل شمعون، وقف الجيش إلى جانب رئيس الجمهورية بقوة.

في محاولة الانقلاب الثانية التي خطّط لها “الحزب القومي” في العام 1961، ايضاً وقف الجيش إلى جانب السلطة أيام حكم الرئيس فؤاد شهاب.

في أحداث العام 1969 وأحداث العام 1973، أيضاً وقف الجيش إلى جانب السلطة.

وفي العام 1975 وقف الجيش بقوة إلى جانب رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية لحماية عهده، لكن حدة الانقسام السياسي والطائفي وضراوة الحرب الأهلية، تسبّبت بانقسام الجيش.

وتكرّر انقسام الجيش في العام 1984 عندما وقفت قيادة الجيش إلى جانب رئيس الجمهورية أمين الجميل.

أيضاً انقسم الجيش مجدداً في نهاية عهد أمين الجميل عندما تم تكليف قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون برئاسة حكومة عسكرية، واستمر الانقسام حتى عملية 13 تشرين الأول 1990 التي أطاحت بالعماد عون.

بعد ذلك التاريخ تماسك الجيش بقوة، على الرغم من محاولات عديدة لشقّ صفوفه باءت كلها بالفشل.

وخاض الجيش بعد ذلك التاريخ معارك عسكرية وسياسية، لحماية الأمن والاستقرار، وكذلك لحماية السلطة السياسية التي يأتمر بقرارها. وكانت محطات حسّاسة كأحداث الضنية العام 2000، وأحداث مخيم نهر البارد العام 2007.

لكن المحطة الأصعب كانت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حين تعرّض الجيش لضغوط كبيرة، ولم ينفّذ الجيش أوامر السلطة السياسية آنذاك بمنع تظاهرة 14 آذار، فتعامل معها بواقعية متجنّباً الدخول في صدام مع مزاج لبناني جارف.

صحيح أن تجاذبات عديدة كانت تحصل بين قيادة الجيش وبين السلطة السياسية، بسبب تعارض في العقلية والأسلوب والحسابات، إلا أن الجيش بقي محافظاً على تنفيذ القرارات السياسية للسلطة، وفي مراحل عديدة كان يتحوّل إلى شريك للسلطة نفسها.

لكن الجيش تغيّر…

منذ تعيين العماد جوزاف عون قائداً للجيش، استعادت المؤسسة العسكرية هويتها كـ”مؤسسة”. ولذلك كانت الكواليس حافلة بمواجهات بين رغبات السلطة السياسية وطلبات القوى السياسية والسياسيين، وبين الجيش كمؤسسة مستقلة تنفّذ قرار السلطة السياسية بحفظ الأمن والاستقرار وحماية البلد، لكنها تصرّ على “تنزيه” المؤسسة من شوائب علقت بها في السنوات الماضية نتيجة حسابات وطموحات ومصالح.

خلافات كثيرة حصلت في الكواليس بين قيادة الجيش وبين العديد من السياسيين، نتيجة إصرار قائد الجيش على كفّ يد السياسيين عن الجيش. لكن المفارقة أن غالبية تلك الخلافات كانت تحصل مع الفريق السياسي الذي أتى به إلى قيادة الجيش. فالعلاقة بين العماد جوزاف عون ورئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل شهدت كباشاً قوياً، ورفض قائد الجيش تلبية “طلبات” باسيل مراراً، وهو ما زاد في توتّر العلاقة التي لم يتمكّن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من رأب الصدع فيها، على الرغم من جمع الرجلين أكثر من مرّة. كما أن العلاقة مع وزير الدفاع، يعقوب الصراف بداية ثم الياس بو صعب تالياً، كانت على غير ما يرام بسبب إصرار قائد الجيش على تطبيق قانون الدفاع الذي يمنح المؤسسة العسكرية استقلالية كبيرة. خلافات مع رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط لأسباب تتعلق أيضاً بتعيينات داخل المؤسسة العسكرية. تباينات مع “حزب الله” بسبب ريبة الحزب من علاقة قائد الجيش المتينة مع الولايات المتحدة الأميركية. خلافات مع معظم السياسيين بسبب إصراره على الابتعاد عن مجالسهم ومآدبهم…

لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير في علاقة الجيش بالسلطة السياسية، تمثّلت بمضمون الإجراءات الضريبية التي تضمّنتها موازنة العام 2018، والتي طالت المؤسسة العسكرية واستهدفت العسكريين المتقاعدين وفي الخدمة، ثم في محاولة إلغاء التدبير رقم 3 الذي يعتبره الجيش حقاً مكتسباً بسبب حالة الاستنفار التي ينفّذها بشكل دائم لحفظ الأمن والاستقرار بناء لقرار السلطة السياسية.

لم يستطع قائد الجيش كبت انزعاجه من المساس بالحقوق المالية لضباط الجيش وجنوده، فقال خطابه الشهير من مؤسسة فؤاد شهاب تحديداً، وكان بمثابة “البيان رقم 1″، حيث شكّل رسالة تحذير بأن الجيش لا يستطيع الصمت على مصادرة حقوق ضباطه وجنوده، وشهدائه ومتقاعديه. كان ذلك الخطاب نقطة تحوّل في طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية وبين السلطة السياسية.

ومع ارتفاع وتيرة الضغوط الاجتماعية، واعتماد السلطة السياسية مبدأ زيادة الضرائب والرسوم من أجل معالجة الخلل في موازنة الدولة التي يذهب قسم كبير منها هدراً بسبب الفساد، كان الجيش يراقب ويترقّب الانفجار الاجتماعي. لكن الأحداث الأمنية كانت تفرض على الجيش الصمت من أجل معالجة التداعيات، حتى حصلت حادثة قبرشمون. يومها وجّه رئيس الجمهورية ميشال عون، في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، لوماً مباشراً إلى قائد الجيش وإلى مدير المخابرات العميد أنطوان منصور، فما كان من مدير المخابرات إلا أن أخرج ما في جعبته من معلومات وتسجيلات كانت تهدّد السلم الأهلي آنذاك، وتثبت أن الجيش تعامل بحكمة مع الحادثة، وأن مديرية المخابرات تعاملت بحنكة مع المعطيات والوقائع والمعلومات، فأصيب الحاضرون بالصدمة، وتحوّل اللوم إلى تنويه.

لكن، ومنذ انطلاق انتفاضة اللبنانيين في 17 تشرين الأول، بدأت المسافة تتسع بين بعبدا واليرزة. أما المسافة بين اليرزة والضاحية فقد ازدادت وعورة بعد أن نبتت الشواك على جوانبها. وبدا أن الجيش “يتمرّد” على السلطة السياسية.

كان رئيس الجمهورية يريد من الجيش، ومديرية المخابرات، العمل على تفكيك الحراك الشعبي، خصوصاً أن العسكريين المتقاعدين كانوا “دينامو” هذا الحراك وقيادته الفعلية، وهم متّهمون بأنهم “ذراع” مديرية المخابرات في الانتفاضة الشعبية.

كان الهمس يتكرّر في بعض الأوساط السياسية والحزبية حول “هوية” الجيش “الأميركية”. بعض تلك الأوساط تتهم قائد الجيش بأنه ينفّذ أجندة أميركية بالتعاون مع الرئيس سعد الحريري و”القوات اللبنانية” وحاكم البنك المركزي رياض سلامة وجمعية المصارف. أوساط أخرى تتحدّث عن “طموحات” قائد الجيش. فريق ثالث يذكّر الآخرين أنه كان معارضاً منذ البداية لتعيينه.

كل ذلك الهمس كان يصل إلى مسامع قائد الجيش، لكنه كان يصرّ على أن المرحلة لا تحتمل هذا الترف، وأن الجيش لديه مهمة صعبة في كيفية السير بين حقل الألغام بتوازن، من دون أن ينفجر اي لغم في البلد. مع ذلك، كان يردّد “سيكتشفون لاحقاً أن ما نفعله الآن يحفظ البلد، وهو مفصل تاريخي”.

أكثر من اجتماع، وأكثر من طلب بـ”معالجة” الحراك، وتطويقه، وتفكيك تشكيلاته، وسحب “عملاء المخابرات” من صفوفه. لكن الجيش كان ينفي، ويصرّ على أنه معني بحماية الحراك طالما بقي سلمياً، وان “الجيش لا يستطيع مواجهة أهله”. وقد كانت مشاهد دموع عناصر الجيش إلى جانب المتظاهرين، واحتضانهم، وهتافات الناس لهم، كفيلة بتأكيد وجهة نظر قيادة الجيش، بينما كانت بيانات الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشدّد على الجيش أولوية “حماية المتظاهرين”.

لكن مبدأ “حماية المتظاهرين” كانت القوى السياسية تريد تطبيقه أيضاً على غير المتظاهرين، على اعتبار أن حماية المتظاهرين مطلوة في حراكهم السلمي، “لكن من يحمي غير المتظاهرين؟!”.

ومع تطوّر قضية قطع الطرقات، وتعطيل الدولة بكل مؤسساتها، تعرّض الجيش لضغوط كبيرة كي يتدخّل لمنع قطع الطرقات. جرت محاولة في البداوي انتهت دموية، فقدّم الجيش نموذجاً عن تداعيات محاولته، إلا أن ذلك لم يقنع السلطة، وبقيت الريبة قائمة حول دور الجيش في الحراك. بل وجرت نقاشات في بعض المواقع الرسمية حول إمكانية تغيير ضباط على مستويات مختلفة في المؤسسة العسكرية.

وعندما حاول رئيس مجلس النواب نبيه بري عقد جلسة نيابية عامة، قُطعت الطرقات في كل لبنان، فانضم الرئيس بري إلى الفريق الذي يحمّل الجيش مسؤولية تساهله مع قطع الطرقات.

ومع ارتفاع درجة التوترات المتنقّلة جراء استمرار قطع الطرقات، خصوصاً أن بعضها بات يستنفر عصبيات مذهبية وسياسية، وبعد حادثة خلدة، ثم حادثة الجية، وبعدها أحداث جسر “الرينغ”، اتخذ الجيش قراراً حاسماً بمنع قطع الطرقات الرئيسية، وتطور قراره لاجقاً بمنع قطع الطرقات جميعها، باستثناء ساحات الاعتصامات.

لكن الظروف المالية للدولة، وارتفاع سعر الدولار الأميركي فعلياً، وعدم توفّر الدولار بالسعر الرسمي، تسبّب بإرباك المؤسسة العسكرية التي تحتاج إلى الدولار لشراء الاحتياجات من طعام للجيش ومحروقات ومعدات وتجهيزات، فضلاً عن ضغط سعر الدولار على رواتب العسكريين الذين يرتبط السواد الأعظم منهم بقروض مختلفة.

انطلاقاً من ذلك، وجد قائد الجيش العماد جوزاف ضرورة لشرح المرحلة السابقة بكل ظروفها ومعطياتها ووقائعها، لقطع الطريق على التحريض ضد المؤسسة العسكرية في أوساط القوى السياسية، و”تبرئة الذمّة” من كل الاتهامات التي سيقت ضد قيادة الجيش، وكذلك لعرض الواقع المالي للمؤسسة العسكرية، فقرّر القيام بجولة بدأها من قصر بعبدا، يرافقه فيها مدير المخابرات العميد أنطوان منصور، حيث حصلت مصارحة وتوضيحات لإزالة الالتباسات.

وشملت الجولة أيضاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

العنوان الأساسي الذي عرضه العماد عون في جولته السياسية كان يتعلّق بتقييم المرحلة الماضية الممتدة من 17 تشرين الأول، وصولاً إلى ما حصل من أحداث وتطورات أمنية في العديد من مناطق لبنان منتصف الأسبوع الماضي، وخصوصاً في بيروت وطرابلس وبكفيا، وعين الرمانة ـ الشياح، وبعلبك، وتعلبايا، والجية، حيث قدّم مدير المخابرات شرحاً وافياً لما حصل وتقديراً للمخاطر.

وقدّم الجيش عرضاً كاملاً لما حصل، وحصل نقاش في التدابير الآيلة الى منع إقفال الطرق وضبط الوضع الأمني، وخصوصاً في مناطق حساسة. كما تم عرض الإجراءات التي اتخذها الجيش والأجهزة الأمنية لضبط الأمن، فضلاً عن عرض الصعوبات التي تواجه الجيش في مهمته، والحساسيات التي يتعامل معها بحذر شديد منعاً لإثارتها.

ونوّه الرؤساء الثلاثة بالدور الذي لعبه الجيش لمنع انفلات الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.

أما اللقاء مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فقد تركّز  على الوضع المالي وتأثيره المباشر على الجيش. وتعهّد حاكم المركزي بتقديم تسهيلات لفتح اعتمادات بالدولار الأميركي للجيش لشراء ما يريده من الخارج، وخصوصاً بالنسبة للمعدّات الطبية ولإصلاح أعطال آلياته.

عملياً، أراد قائد الجيش فتح صفحة جديدة في العلاقة بين المؤسسة العسكرية وبين السلطة الرسمية، لعله في ذلك يخفّف عنه بعضاً من السهام التي تصيبه في توقيت حرج وطنياً. فالجيش يريد “حماية ظهره” كي يستطيع مواجهة المرحلة العصيبة بكل تداعياتها…



from شبكة وكالة نيوز https://ift.tt/2Y9rxTl
via IFTTT

0 comments:

إعلانات جوجل

إعلانات جوجل